عام

انتفاضة القدس ثورة على المألوف

Views: 2262

انتفاضة القدس ثورة على المألوف

شهدت الضفة الغربية والقدس المحتلة منذ أربعة أعوام تقريبًا حالة مقاومة تصاعدية، على شكل نبضات متفرقة لكنها في كل مرة كانت تذكر الفلسطينيين بأن هناك احتلالًا وأنه لا بد من ثمن يُدفع، وتضحيات تُقدم، وأن الغيث المتفرق الممتد على مدى أعوام والمتصل بكل الثورات على أرضنا الفلسطينية منذ عام 1920؛ لا بد أن يشتد، لتتحول البطولة من حالة فردية إلى حالة جماعية، ثم تتحول الحالة النخبوية إلى حالة شعبية عامة.

كل هبة وانتفاضة وثورة كانت لها سماتها الخاصة؛ لكن انتفاضة القدس وإن كانت امتدادًا لما سبقها فهي ثورة مختلفة في بنيتها وشكلها، ومختلفة فيما تصنعه من تغيير، وما تتيحه من فرص لإعادة اكتشاف الذات الثورية، وإعادة صياغة الأفراد، وإعادة بناء وتشكيل الوعي العام؛ ثقافيًا واجتماعيًا ونضاليًا.

انتفاضة عملت على تحطيم كل الصور النمطية؛ الصور المألوفة السابقة التي اعتاد وعي الجمهور عليها؛ مثل: المقاومة لا تكون إلا برشاش أو حزام ناسف، أو لا تخرج إلا من خلال تنظيم، المرأة لا تشارك وإن شاركت فدورها في أعمال لوجستية توفير مواد غذائية وطبية، الشاب المتزوج لا يقاوم فهو يركن لعائلته وأطفاله، والمقاومة لا تكون إلا في سياق ثورة عامة حين يتحرك الجميع فقط أو حين تُعلن من جهة ما، وصغار السن دورهم محصور في مقلاع وحجر وزجاجة حارقة، وغيرها من الصور الراسخة في أذهان الناس.

لتكون لدينا مقاومة تؤثر وترعب بسكين وسيارة ومسدس وغاز وحجر، وسائل بسيطة ربما لكنها تحقق الترهيب والإثخان، تؤلم وتجرح وتزعزع الأمان، لا حدود لشكل السلاح ولا علامة مسجلة، لكنه ما توفر ضمن اجتهاد الفرد ليكون فاعلًا في الحدث لا مفعولًا به كما اعتاد الوعي العام، ممتلكًا زمام المبادرة وغير مقيد في رد فعل قد يكون ردًا على مذلة وقهر.

ولتكون لدينا الفتاة والمرأة التي تخوض التجارب المختلفة؛ بحثًا عما يناسبها أكثر، واكتشافًا لمكنون قدراتها، وتعبيرًا عن إرادتها الحرة، تجرب وتجتهد، تصيب وتخطيء، تشق الطريق وتترك لمن وراءها استخلاص العبر، المناسب وغير المناسب، تنتقل من تجربة لأخرى، ومن صف لآخر، تتقدم وتتأخر، وتترك فسحة واسعة للمختلفين عليها؛ وهي وحدها تقدِّر من بين كل الآراء ما الدور الذي ترى نفسها فيه، ضمن حالة تفاعلية عامة يشارك في توجيهها الكل الفلسطيني سواء عارض أو وافق، هي اليوم؛ الشهيدة، والأسيرة، والجريحة، والطبيبة، والمقاوِمة، حاضرة في الميدان وجزء من معادلة أي ثورة أو فعل أو حراك، ولأنها أيضًا ابنة أو زوجة أو والدة أو شقيقة فارس الميدان فلا يمكن أن يُنتظر منها تأمل الصورة دون تفاعل سواء بالانخراط أو إيجاد سياق بديل تعبر فيه عن نفسها.

وتستمر انتفاضة القدس في تغيير الأفكار السائدة؛ حتى رأينا الآباء الذين يحرصون على الشهادة ولديهم الطفلين والخمسة مثل الأسيرين: محمد عبد الحليم سالم، ورائد مسالمة، والشهيد عدي مسالمة، الذين تحرروا من فتنتي المال والأولاد وأقبلوا على المقاومة اختيارًا ضمن سياق ثوري لم يقصر النضال على مرحلة عمرية، أو حالة اجتماعية.

وليدخل المنافسة الفتيان ويستعيضوا عن الحجر بالسكين، وبدلًا من تلقي رصاص قوات الاحتلال في المواجهات؛ يطلبون الموت برؤوس المحتلين، ولا يمكن لمن أعاد تشكيل وعيه مسافة الصفر الغزية أن يرويه إلقاء حجر وهو يمكنه اختبار نفسه وقدرته، تاركًا وراءه كل الكلام الذي يطعن في جرأته، مكملًا بإقدامه جرأة متلقي الرصاص في الخطوط الأمامية على نقاط التماس.

ورأينا الشباب الذي ينظم نفسه معوضًا فراغ التنظيم؛ دون انتظار إشارة ولا عنوان، دون إعلان لحالة عامة، التقط وحده ما أراد إيصاله الشهداء والأسرى وبنى على ذلك ما يجب عليه من واجب تجاه ما يؤمن به.

هكذا تعيد انتفاضة القدس نظْم الحالة الثورية، حين تحطم السائد الموروث؛ وتبني مكانه صورًا جديدة؛ متحررة من الشكل الثابت، واللون الواحد، إنها المعركة المفتوحة زمانًا ومكانًا، والمرحلة التي قرر فيها المنحازون إليها أنْ لا خيار ولا حل إلا المقاومة بكافة أشكالها، يعيدون بذلك ترتيب أولوياتهم الفردية، وتتكفل الانتفاضة بإعادة ترتيب أولويات الشارع الفلسطيني ككل رغمًا عنه؛ ميدانيًا وإعلاميًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا.

إنها المرحلة التي ستسهم من كل بُد بولادة مجتمع فلسطيني جديد؛ يعاد تأهيله وصياغته وفقًا لمفاهيم جديدة تفرضها الانتفاضة، من خلال كل ما تشهده من أحداث؛ وما توفره من فرص لتعبئة عامة لجمهور واسع، وصولًا لحالة ثورة عامة تبدأ حين تكتمل مرحلة التهيئة التي نعيش فصولها الآن.

إسراء خضر لافي

16 جمادى الأولى 1437هـ

24 شباط 2016مـ

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *