عام

في أفياء مملكة الشهداء

Views: 3299

اعتدنا في المسارح على إسدال الستار في نهاية العمل إيذانًا بانتهاء العرض والحكاية؛ إلا مع الشهداء فيبدو أن الستار لا يُفتتح إلا إذا ترجل الفارس؛ فيكشف عن حياة مليئة بالحكايات والأسرار، عن فارس مغوار، عن الفارس الإنسان، عن الثورة التي تغفو وتصحو بين جنبيه خلف كواليس الهدوء والاختفاء بعيدًا عن الأنظار، بعيدًا عن الزهو، بل بعيدًا عما يحيك في النفس من هوى محبب، في أرقى صور جهاد النفس وتهذيبها وقيادتها إلى حيث يليق المقام.

يرتحل الشهيد وتبدأ رواية جديدة، رواية صياد أجاد الغوص بحثًا عن لؤلؤة تمسح عنه عناء ما مضى، وتشرق على دنياه، تسرج ليله، وتشد أزره، وتنهل من صبره، وفهمه، كما يشرق على فؤادها فينقلها من حال إلى حال، من الضعف إلى القوة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن التشتت إلى الاستقرار، ومن الجبن إلى البسالة ورباطة الجأش، ويرويها حبًا يتقاطر من عينيها، وينطق به لسانها رقة وعذوبة، ولا تحيط به حروف اللغة والبيان!

عنصرًا نبيلًا حفزته روح فصار إلى شخص أقوى عزيمة، وأرسخ يقينًا وثباتًا، لكنه الفقد! الفقد العزيز الذي جاء بعد ارتواء، معراجًا للحب إلى الخلود، فإن كان للحرمان طعم الحنظل فإن للفقد بعد الذوق مرارة أشد من الحنظل! الفقد الذي يكشف عن مدرسة رغم قصر زمن التلاقي.

فتقف كالطود شامخة؛ تتألم، تبكي، تستجلب كل الذكريات الممكنة، لا تريد أن تخسرها، ولا أن تنساها، تبحث عنها في عيون المحبين، الباحثين عن الأثر، بل تبحث عنها في تلك القلوب التي انخلعت رغم المسافات التي تفرقهم، تلملم أفكارها، وتبلور في عزمها كل ما أراده منها ولها، كل ما ترك، وقد استملك عليها الفؤاد وخفقه، والعين وماءه.

تقف تعلِّم الرجل أن تربيته لزوجته يجب أن تتجاوز أحاديث العجائز، إلى ميدان العمل، ميدان البطولة، ميدان تحقيق الذات لخدمة مشروع الأبناء وتكاملًا مع دوره في الحياة علمًا وجهادًا، ثم تقف تعلِّم الزوجات أن تقدر الذي يقف بجوارها، وتتفيأ منه ما قد تُحرم منه غدًا، تقديرًا لنعمة وشكرًا، ثم تؤسس في جيل الناشئات أنه كلما صعب الاختيار غلت الأثمان، وأن ما قد يغرن منه الأقران في الاختيار في جوهره ابتلاء، لكن ثمنه الجنة بإذن الله، وتؤسس فيهن كيف يكون كل من الزوجين وطنًا للآخر.

هذا النموذج الفذ في الجهاد والثبات يتكرر في بلادنا، ففي السنوات السبعة الأخيرة كان نشأت الكرمي ودينا السعيد 2010، ومروان القواسمي وأبرار صلاح 2014، وعامر وإكرام أبو عيشة 2014، ومحمد الفقيه وهديل عودة 2016، ومازن فقهاء وناهد عصيدة 2017، أتراها كانت نماذج تتكرر عبثًا؟!

إنها تتكرر غيثًا كلما احتاجت إليه نفوسنا، تجديدًا لمعانٍ عميقة في التربية والجهاد، يتكرر شاهدًا علينا، فإن فقدنا المعلم والمربي فهذا أبلغ درس، نعايشه، نشاهده، نسمعه، نقرؤه، نتابعه، ولا ينتهي في السرد، ولا في العِبر! والقلوب مشارب في تأثرها، وفي صياغتها لما تعلمته منهجًا وحياة.

يفتتح الشهداء الروايات ولا يختمونها، وإلا كيف تكون حياتهم؟ إنهم أحياء عند ربهم، أحياء فينا، وأحياء بما عمروه في دنياهم قبل الرحيل على امتداد العمر، وعلى طول التاريخ ما تناقلت الأجيال إرثهم.

إسراء لافي

03 رجب 1438هـ

02 نيسان 2017مـ 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *