عام

التعصب المناطقي

Views: 692

حرارة كامنة في أعماق إنسان تجذر في مكان ما لفترة مؤقتة أو عمرًا طويلًا صنع انتماءه إلى المكان مدافعًا، ومنحازًا، ومفتخرًا، التعصب المناطقي الذي يُطل برأسه منبئًا عن حجم التفتت الذي يعيشه كل مجتمع، ولا يقتصر على مدينة أو قرية بل في قلب كل تجمع تصطف انحيازات بين شمال وجنوب وشرق وغرب، وأحياء وشوارع! لتزيد الحياة تعقيدًا، والناس تفرقًا، في وقت أحوج ما تكون فيه إلى الألفة والالتحام، والتكامل، والبحث عن مفاصل التعاون الممكنة، وتحقيق المشاركة التي تعود بالنفع عليهم أفرادًا ومجتمعات أو دول.

وتسفر الرياضة أحيانًا عن هذا التعصب المناطقي في التشجيع يعلو صوت المنطقة، وعدم الفوز والخسارة تُظهر ردات الفعل حجم الروح الرياضية الضيقة التي تتحول إلى تخريب وضرب، في جزء منها يحركها الانحياز للمنطقة، وإن حضرت فكرة ابن المدينة وابن القرية فالمشكلة أكبر.

للناشئين في مجتمعات تصنف الناس بحسب مكان نشأتهم، تصبح نظرة الانتماء الجغرافي كنظرة تفسيرية حاضرة في كل شيء، فهو لم يُقبل في عمل لأنه ابن المنطقة س، وهو خسر لأنه ابن المنطقة ص، وإن كانت المجتمعات بمجملها تتحول إلى مجتمعات حضرية؛ إلا أن تلك النظرة بين قروي ومدني لم تنتهِ بعد، وإن اختلطت الأنساب والأعراق، وتداخلت المصالح والأعمال.

 ويسهم توزيع المناصب الحكومية في كثير من تجذير التعصب المناطقي، فعند هضم حق منطقة في شكل التمثيل الحكومي فهذا نوع من التهميش، نعم الكفاءة مهمة، وأيضًا مراعاة نفوس الناس مهمة، ابن المنطقة قادر على حمل أهله، وأعرف بثقافتهم، ويعزز وجوده ثقة محيطه به، وثقتهم بأنفسهم بأنهم غير مهضومي الحقوق، ولا يمارس بحقهم التهميش أو الإقصاء، وفي الحديث عن التمثيل فقد قلنا أن جذور فكرة مدني وقروي لم تنتهِ وعليه تجدر مراعاة هذه المسألة ليتساو الجميع في الشعور بعدالة التمثيل، وليس لتعزيز التعصب.

وبوجود الفساد لا نتحدث عن عدالة حقيقية تحصل عليها كل المجتمعات، إذ تجد الوزير أو المدير أو رئيس البلدية حريص على منفعة عائلته أولًا، ومكان سكناه ثانيًا، وقد يأتي أخيرًا ما يلحق به من أعمال، سواء على مستوى الخدمة أو التوظيف، فهو بسلوكه الفاسد عزز المناطقية.

أما الإعلام فلا تجد بعض المؤسسات الإخبارية أو الصحفيون إلا العناوين التي تعزز المناطقية، فمثلًا: “فاز فلان النابلسي” أو “خليلي يحصد جائزة“، فما المعنى من تحديد جغرافيا الخبر؟ استهداف المنطقة؟ أم إثارة النعرات المناطقية، وجذب الناس لقراءة الخبر؟ هكذا حين يكون الإعلام بلا بوصلة، ولا ثقافة وطنية جامعة.

فيما تعززت في السنوات الأخيرة على مستوى المقاومة نسبة البطولة للمنطقة، أهل الخليل، جبل النار، نخبة القدس، في محاولة لتعزيز فكرة المقاومة، ولكن دائمًا هناك مَن يخرجها من هذا الحيز إلى حيز أضيق، مداه العصبية للمنطقة، ليبدأ التراشق على مواقع التواصل، وكأن هذه الأعمال تقاس بالشبر لا بالنية والتأثير! فالمعارك الجانبية الفارغة جعلت الاجتماع على همِّ الوطن مكدرًا بالعصبيات.

ولكن السؤال: لماذا يتعصب الناس للمنطقة؟ لماذا يجعلون منها حرب داحس والغبراء؟ ولماذا لا يذكرون ميزان التفاضل الذي حدده الله عز وجل في القرآن؟

ببساطة .. حين يختفي الدين كروح من المجتمع تسوده روح الغابة، فالدين حدد معيارًا ينضبط به السلوك العام، وحين يقل وهج الفكرة الدينية يسود الاستسلام لأفكار الاضطهاد، والتهميش، والشعور بالدونية، والحاجة للاقتصاص، وكأن معركة المنطقة ستفتح بلاد الروم!

وقد يُفهم شعور الإنسان بالانتماء لأي مكان يقيم فيه فترة من عمره، فطبيعي الشعور بالاعتزاز للانتماء لمنطقة أو شعب أو عائلة، لكن من غير الطبيعي تحول هذا الاعتزاز لكراهية وعداء للآخرين، كل مكان فيه خير وشر، فيه جميل وقبيح، ولم يتفرد مكان بالجمال أو السوء.

يقول تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} الحجرات: 13.

خلقنا الله جميعًا من أصل واحد، وجعلنا شعوبًا وقبائل لتحقيق الألفة والتعارف، لا التناحر والخصام، هذا الاختلاف في المشارب، والثقافات، والعادات، واللغات، والألوان، مزيج غني لنتعاون فيما بيننا، لنحقق التكامل، ولنتمكن من القيام بواجباتنا تجاه أنفسنا ومجتمعاتنا فرادى وجماعات، وجعل معيار التفاضل “التقوى” لا النسب ولا اللون ولا المنطقة، فأين نحن من هذا؟ 

 

22 جمادى أولى 1439هـ

08 شباط 2018مـ

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *