عام

عصبُ الحياة: أبي!

Views: 2002

عصبُ الحياة: أبي!

في الحادي عشر من تشرين ثاني 2012م أسدلنا الستار على مشهد الاعتقال الإداريّ الثالث لأبي والخامس في مجمل اعتقالاته التي قضى فيها قرابة ستة أعوام في سجون الاحتلال خلال الأعوام الثمانية الأخيرة!
وكتبتُ في حينها سطورًا، واليوم بعد شهر ونصف من الحريَّة أكتبُ وأبي في سجون الظُّلم، في سجن الوقائي في الخليل.

حُريَّة أبي حياة عائلة
ربما شهر غير كافٍ لنشعر بالاستقرار العائلي المفقود منذ ثمانية عشر عامًا، ولكنه الأجمل في حياتنا، منسوب الجمال والحيوية فيه في أقصى درجاته، مركَّزًا غاية في العذوبة!
كل الأوقات جميلة وسريعة، لا زلنا نستقبل المهنئين بخروجه من سجون الاحتلال، الضحك في البيت سمة بارزة، حب الاجتماع، حب المرافقة، وكأننا ندرك أن علينا أن لا نضيع أي لحظة دون أن نكون معًا، الصلوات والفطور، والغداء، والعشاء؛ البيت مُجتَمِع ولا بُد، حركة لا تتوقف.
والدي فاجأنا في آخر خروج له، لم نكن نعرفه، وتصورات إخوتي كانت قاسية، وبدا لنا قريبًا وحبيبًا باسمًا في معظم حاله، يتعامل ببساطة ولا يُحمل الأمور فوق طاقتها.
السجن أخرج لنا إنسانًا نبكي أننا لم نعرفه من قبل!

أبي والمطبخ
ربما كثيرون يميِّزون لمسة والدتهم ولكني أميِّز لمسة أبي وأمي، فلكل منهما طريقة ونكهة، تلك الحياة التي دبَّت في البيت هي جزء بسيط من الحيوية التي يتمتع بها أبي وينثرها في كل مكان يحضر فيه.
في المطبخ كان له جولة فهو كل أسبوع كان يُعد لنا حلوى وهي “المدلوقة النابلسية” ولكن مرة بطريقة الأسرى ومرة بطريقتها الأصلية، والحقيقة بطريقة الأسرى أطيب، ومنه تعلمت عمل الكريمة المنزلية، كما كان يُعد الكركديه إذ يفيده في خفض الضغط، ومن نصيبي أنه قدمه لي مرة واعتبرتها هدية جميلة.

أبي وسما وصورة

الصورة المرفقة كانت أول وآخر ما التقطت عدستي لأبي حفظه الله، وقد أصرت سما أن ترتدي فستانها الذي أعدته لاستقبال أبي تحت إلحاح شديد لتحتفي به، وفي تلك اللحظة رفضت أن يحتضنها والدي وقالت “عيب ما بيصير”، بطبيعة الحال لم تعتد على أبي في البيت وهو الغائب منذ ولادتها، ولكنه قابل ذلك بالابتسام وكان فرحًا بها لأن عفوية الأطفال تجعلهم يعبرون بصدق عما يفكرون به فيكونون كما هم.

هدية
فكرنا كثيرًا بالهدية الأنسب لنقدمها لأبي فاقترحت أصغرنا جوالًا، وكان ذلك، وقد صادرته بلطجية السُلطة، ومن ناحيتنا لا نريد استرجاعه فلا ثقة لنا بهم ولا حاجة لنا بشيء نجسته أيديهم!

مبادئ
الفترة التي قضيناها معًا أكثرنا الحوارات العائلية، حاولنا أن نسأل أبي عما يختلج صدورنا من أسئلة.
سألته بعد يومين من الإفراج عنه؛ هل ستجيب الاستدعاءات؟ فقال: نعم، ولما ألححت وعرضت عليه ما أفكر به وأن شباب الضفة حملتهم رفض هذه الاستدعاءات، فقال أنه موظف حكومي وإن لم يذهب فسيأخذونه من وظيفته، وبعد أيام من هذا السؤال، كان أبي يهيئنا لاعتقاله لدى أجهزة السُلطة، فكررتُ ذات السؤال، فقال لن يذهب، وأنهم لن يستدعوه بل سيعتقلونه، وأنه إن اعتُقل سيُضرب عن الطعام والدواء.
وكان والدي يتابع أخبار الضفة الغربية وكلما سمع عن إفراج يذهب ليهنئ المُحرر، وقد رفض ذلك أهلي خوفًا، وكان يقول: واحد طلع من السجن وين المصيبة لما تروح تسلم عليه؟ هم بدهم يحرموا الناس من بعض؟
وكان يتصل بمن يعرف ليذهبوا معه.
ورغم الإفراج عنه إلا أنه كان يذكر الإخوة المعتقلين كثيرًا، ويذكر بعض الظروف، ويفضل أن يبقى على معرفة بحال السجون، وكان لا يحب أن يفوته برنامج الأسرى كل خميس على فضائية فلسطين.
ويعقب على ذلك بقوله: مش معنى طلعت من السجن إنه انتهت قضية الأسرى، ولازم نتابع.
لم يكن ليعيش لنفسه وهو على وفائه لذوي الأسرى والشهداء قبل أن يجرب الاعتقال لدى المحتل.
أكثر أبي من ترداد: التضحية لازمة، واللي بمشي طريقنا بده يضحي مش مفروشة ورد، ونسأل الله الشهادة في سبيله.

مشهد الاختطاف
فيلمًا بوليسيًا كان منفذوه بلطجية السُلطة تقليدًا لما يُسمى “الكوماندوز”، وقد حسبهم الناس جيش الاحتلال، وذلك بعد عصر الأربعاء 26/12/2012م إذ طوقوا المكان المتواجد فيه أبي وكان في حينها بعيدًا عن البيت قرابة نصف كيلو متر، وطلبوا منه الذهاب إلى البيت ورافقوه، فتشوا البيت وخرجوا منه بجهاز الحاسوب، وبعض الأقراص المرنة القديمة، فقط إضافة إلى مصادرة جواله الذي أهديناه له بمناسبة الحريَّة!
ثم أخرجوه معهم وقد قضوا في البيت ساعة كاملة بين 3:50 – 4:45، وقد ودَّع الصغيرات ومضى.
وهنا لا بد أن أحمد الله كثيرًا فهذا ما تمنيناه، تمنينا إن كان من اختطاف لديهم أن يكون في وضح النهار كي ترى الناس وقاحتهم وتدرك عمالتهم وتفهم أن المعركة هي معركة عقيدة وليست صراع سيادة، معركة حق وباطل؛ فالحمد لله رب العالمين.

محاكمة وإضراب
عُرض والدي على المحكمة صباح الخميس 27/12/2012م والتي حكمت بتمديد توقيفه 10 أيام، ولم نعلم إلا من خلال شاب من البلدة كان يقف على باب المحكمة لحظة خروجه فأخبره!
لم نعلم عن المحاكمة ولا يُسمح لنا بزيارته؛ وعلى إثر المحكمة أعلن أبي إضرابه عن الدواء والطعام.

اكتشاف السر
تجمدت حياتنا فجأة باختطاف والدي، وكأنه الدم الذي يسري في عروقنا أو هو القلب الذي يبث فينا الحياة فننطلق بقوة وعزم.
كل شيء بهت فجأة، وكأن على رؤوسنا الطير، لا رغبة لنا باستئناف الحياة بدونه، حين اعتقاله لدى الاحتلال كنا نهب بقوة رغم الألم لنمضي، أما مع هؤلاء فكانوا كمن دَفَنَ حيًا والكل ينظر إليه واجمًا!
لم أبكِ ولن أبكِ بل سيكون كما دائمًا أبي قضيتي، والحريَّة مطلبي، وأملي أن يرضى الله عني، لكني بين يدي ربي لا أملك عبرتي.

التهيئة الربانية
الله وحده يعلم حجم الحب والتعلق الذي يربط أسرتي ببعضها خاصة تعلق الجميع بوالدي، والذي صيغ في العقد الأول من نشأة الأسرة، ولم تكن كل ظروف الحياة الصعبة ولحظات الفراق المتكررة كافية للتخفيف من ذلك التعلق.
ومن كل ما مر معنا بتُّ أفهم جيدًا أن الله يربينا برحمته ويهيئنا بحكمته لنصبر ونثبت، فالصبر لحظة المصيبة لا يؤتاه كل أحد، وإننا بالله نعتصم وعليه نتكل وبه نستعين ومعه نحيا ونقاتل حتى نلقاه شهداء بإذن الله.

إسراء خضر لافي
15/صفر/1434هـ
28/كانون أول/2012مـ

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *