عام

مع الأسرى

Views: 3150
مع الأسرى
إسراء خضر لافي

حكاية الأسر والأسرى ضفيرة تجمع أنواع الأسى والظلم، تفرض ألمًا جبريًا على الأسير وكل ما ارتبط ويرتبط به؛ أم وزوجة وولد، أو صحب وسلاح وعمل.

ساعة طويلة تلك التي تشهد محاصرة المنزل، وإيقاظ الأهل، وإفزاع الأطفال، ونزع المستهدَف من بين ذويه، وكأن عقارب الساعة يحلو لها أن تغفوَ في تلك اللحظات فقط!
في حضرة الحدث ينطلق الدمع ملتهبًا حارًّا، شيء يُنزع من قلوب المحبين، لحظة بين حياة وموت؛ هي لحظة بين التصديق والإنكار!
 وإن كانت اليدان والعينان أول شاهد علني على بدء رحلة الغياب؛ فإن للقلب والعقل شهادة خفية، يسطِّران دقائق الرحلة بكل ما يحيط بها من تفاصيل دقيقة، فالفكر مشغول بهَمِّ الآخرين، والقلب يروي قصة لوعةٍ لا تنضب، تتجدد تفاصيلها خارج جدران السجن الرطبة، وبرتابة يعاين فصول معاناته، وفي كل بارقة أمل ومع كل زيارة يحاول القلب استلال النور لشهود ذاك التجدد؛ ليدرك الحياة التي يفتقد، وليخفق فؤاده معهم وكأنه بينهم.
وحده هو الأمل كالشمس تشرق على قلوبهم؛ فتدبُّ في أوصالهم حياة تستبشر بغدٍ يعوِّضهم عما لاقوه، فتجد أصحاب الهمم الذين يُعدون العدة ليكونوا على أهبة الاستعداد لما سيحمله لهم عن يقين، مستبشرين بما فتح الله به على نوح وأيوب ويونس وزكريا عليهم السلام الذين قرعوا باب السماء بدعائهم فكانت الإجابة بقوله: “فاستجبنا له”.
السجن ليس مدرسة بل جامعة؛ تجمع أصناف البشر، وأنواع الهمم، وتنوُّع الأفهام والأمزجة والأذواق، وتُذيب الفروق المجتمعية، وتقرب المتباعدين جغرافيًا، فالأسرى فيه درجات؛ منهم عالي الهمة، والفاتر، والمتأرجح بينهما، والمتفائل، والمتشائم، والكسول الخامل أيضًا.
السجن معركة متواصلة، بين الأسير وآسره، وبين الأسير مع ذاته، فمع السجان هو في معركة صبر وثبات، لا تحتمل معادلة الظفر بها أي جزع أو تنازل مهما بلغ صلفه وغطرسته وإذلاله؛ فهو يبقى عدوًا ومعالم مواجهته واضحة، أما مع النفس فهي أعمق من ذلك، بشرٌ هو ليس بمعدن، يضعف ويبكي، يفتر وينشط، يحزن ويفرح.
فيه حكاية حياة تصرخ، تتطاول على قضبان السجن، فكل إنجاز في حياة السجن هو معجزة بل مفخرة، فهو حين يتقدم خطوة يجتاز كلاليب كثيرة تحاول ثنيه، وتصد إرادته، وتذكِّره بعجزه وطول أسْره؛ كشيطان يوسوس له؛ فيصرع أخيرًا كل وسوسة ويبرق في سماء الوطن يخط الدرب لمن معه ومَن سيلحق به، فإن الإرادة إذا قويت لا بد أن تنتصر.
السجن أوله لوعة وفراق؛ وأوسطه صبر وأمل؛ فعمل وثبات، وآخره نصر وحرية، والله ينصر مَن يشاء وهو العزيز الرحيم.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *