شعفاط.. عن المخيم الذي يحاصِرُ محاصِره
يعود مخيم شعفاط إلى واجهة الأحداث بعد غياب ومحاولات تجفيف لمرابض الرجولة فيه، وإغراقٍ للشباب والناس فيه بالهموم اليومية، والسيطرة عليهم بفرض الرقابة الذاتية من خلال تقييدهم بالملاحقة والمتابعة والقيود الأمنية، مما يحيّدهم عن التفكير في المواجهة، في محاولة للهروب من قيود الاعتقال تحديدًا.
تأتي عملية “حاجز شعفاط” الخاطفة وعميقة الفاعلية والأثر، والتي يتهم الاحتلال الشاب “عدي التميمي” بتنفيذها مساء السبت 08/10/2022، الساعة 09:17، منتظمةً في سلسلة تاريخ طويل للمخيم لمعت منه في سماء بيت المقدس والمسجد الأقصى أسماءٌ وأعمال مقاومة، منها: الأسير محمود عيسى (1993)، وخلية محمد أبو سنينة ولؤي أبو نجمة (2008)، والأسيران الشقيقان محمد وعلي أحمد فرحان المتهمان بإلقاء زجاجات حارقة على جنود الاحتلال في المسجد الأقصى (2013)، وإبراهيم عكاري، ومحمد علي (2015)، ثم مشاركة جماهير المخيم بكثافة في هبّة باب الأسباط (2017)، وهبة باب الرحمة (2019)، ثمّ عملية فادي أبو شخيدم (2021)، بالإضافة إلى العديد من الشبان الذين يضيق المقام بذكر أسمائهم وأفعالهم. يشير هذا إلى أن البطولة في المخيم ليست طارئةً، لكنها متجذرة، يحمل لواءَها مَن يصطفيهم الله عز وجل ليعيدوا تأهيل المنطقة، أو ليحيوا من جديد أنفاسًا خبت أو آن أوان تجددها.
إثر عملية عدي؛ فرض الاحتلال الإسرائيلي حصارًا على مخيم شعفاط بأحيائه رأس خميس ورأس شحادة وضاحية السلام، بالإضافة إلى قرية عناتا، بالتزامن مع اقتحامٍ للمخيم من جهة منطقة رأس شحادة، في الوقت الذي كانت الناس فيه مصدومةً وحائرةً، كان الاحتلال مركّزًا على حي محدد، معتقلًا شبابًا وأبًا وأمًا، قبل الكشف عن هوية المنفذ.
القادم من المستحيل!
بعد تنفيذ العملية ركض عدي إلى المخيم ليختفي بعدها، وأيًّا كان مصيره؛ فإنه ربما الآن يراقب حالة الاحتضان الشعبية التي وإن بدت عاديةً للمراقبين؛ فإنها لمن يعيش تفاصيل الحياة في المخيم؛ ولدت من رحم المستحيل! ولا زالت تتعاظم لتُخرِج أفضل ما في هذا المكان، في حالة تسامٍ شعبيةٍ نموذجية، يسعى الاحتلال بشكل دائمٍ إلى اجتثاثها ومنع إعادة بنائها، ما يدخلها في مدّ وجزر متواليين، كما هو متوقع من أي حالة شعبية.
شمل الحصار منع الحركة خارج المخيم بشكل كامل لمدة يومين تقريبًا قبل فتح الحركة بشكل جزئي وتحت إجراءات مذلة يوم الإثنين، تخلَّلَ اليومين الأوليْن قطعُ الاحتلال للتيار الكهربائي، ومواجهاتٌ مستمرة، وخاصةً في ضاحية السلام ورأس شحادة، مع اقتحامات للمنازل، وإطلاق لقنابل الغاز وقنابل الصوت والرصاص المطاطي والحي، مع ملاحظة تصاعد الأحداث في فترة المساء حتى الفجر قبل أن يسود هدوء حذر في المنطقة التي تمنح المقيمين على خطوط التماس الداخلية فرصةً للنوم الحذر، قبل تجدد المعركة!
تحولت شوارع المخيم إلى لوحات بالألوان، وسقطت بعض لوحات المحلات، وحُوّلت حاويات القمامة إلى متاريس للمتظاهرين، واشتعلت النيران فيها وفي كل ما تم جمعه لإعاقة تقدم جنود الاحتلال، وزاد سوءَ أحوال الشوارع رشُّ الاحتلال للمياه العادمة على طول الطريق العام للمخيم، ورشُّ واجهات المحلات بها، في إيذاء مركّز وطويل الأمد للمواطنين والمارّة، حيث تدوم الرائحة أيامًا.
التحام مجتمعي
في اليوم الثاني للحصار ومع إعلان الاحتلال للإجراءات العقابية التي يفرضها على المخيم والتي بدأت بالحصار ولم تنته بفرض الخروج مشيًا من الحاجز تحت إجراءات تفتيش مذلة، توازيها إجراءات تفتيش أكبر لمن يحاول الخروج بسيارته الخاصة، بالإضافة إلى الغرامات التي تُفرض على المركبات المتوقفة خارج الحاجز لتنقل المشاة إلى وجهتهم، ومنع خروج حملة لم الشمل أو التصريح من الحاجز؛ هنا بدأ الالتحام المجتمعي في المخيم يتصاعد، فصدحت منابر المساجد بالنداءات المختلفة سواءً لتأكيد إضراب، أو للدعوة إلى الوقفات التضامنية، والدعوة لاستمرار الإضراب الذي يشمل المدارس، وقطاعات العمل المختلفة، كما بدأت تخرج سيارات في الأزقة تنشر في الأثير ألحان المقاومة، لتعزز حالة الصمود، وهي الألحان التي ترافق المواجهات أيضًا.
كما واصل شباب المخيم الاجتماع لمتابعة ما عليهم فعله لمساعدة أهالي المخيم، وللوقوف بوجه إجراءات العقاب الجماعي التي يفرضها الاحتلال، كالدعوة إلى العصيان المدني، ورفض الخروج من الحاجز، والدعوة إلى الانتباه إلى عمليات التفتيش من أن يتخللها دس موادَّ ممنوعةٍ، أو سرقة مصاغ وأموال، وتوفير أرقام للطوارئ والحالات الحرجة والتي لا زال الاحتلال يواصل منع خروجها بسيارات الإسعاف –التي يمنع دخولها من خارج المخيم إلى داخله أصلاً-، وتوفير بعض المحال خدمة توصيل بما توفر لديها من بضائع.
لمسات إنسانية.. وحياة!
أظهر الإغلاق في يوميه الأوليْن الخير في الناس، فظهرت مبادرتان: الأولى توزيع وجبات الطعام على العالقين عند الحاجز من مطعم حبيب قفيشة بعناتا، والثانية توزيع المياه والمشروبات على العالقين أيضًا، استدعت المبادرات تذكّر مبادرات الشباب على مفترقات الطرق وإشارات المرور في رمضان لتفطير الصائمين.
وسجلت المراكز الصحية موقفًا بإعلانها استقبال حالاتِ الإصابة في المواجهات مجانًا، وفتح أبوابها على مدار الساعة، إلى جانب بقاء الصيدليات في مناوبات مستمرة، كما بقيت الحالات العالقة تلك التي نفدت علاجاتها أو حالات غسيل الكلى أو نقص الأكسجين أو مرضى السرطان، والتي سُمح لها بالخروج راجلةً عبر الحواجز وليس من خلال سيارات الإسعاف. وابتدع أهل المخيم طرقًا جديدةً لتجاوز الحاجز، يتخللها مشيٌ كثير ولا تخلو من مغامرة، وتتطلب منهم تأمين سيارات في الجهة المقابلة.
كذلك مَن انتهى اشتراك الإنترنت أو الهاتف لديهم؛ فقد تعاونت المحلات من خلال الاتصال الهاتفي بتمديد الاشتراك للمشتركين حتى نهاية الأزمة.
أما التعليم فتعطلت مدارس المنطقة بشكل كامل، كما لم يتمكن طلبة الجامعات من الوصول إلى جامعاتهم، وفي اليوم الثالث للحصار أعلنوا التحول إلى الدوام الإلكتروني، فيما حاولت بعض رياض الأطفال التواصل مع الأهالي لمتابعة أطفالهم منزليًا، ورافق ذلك تفقد بعض مدرسي المدارس الخاصة خارج المخيم لطلبتهم داخل المخيم في لمسة إنسانية لطيفة.
أما الطعام فتتدبر الناس أمرها بما تيسر في بيوتها، ومع الإبقاء على كثير من المخابز مفتوحةً فقد خفّف ذلك شيئًا من الصعوبة وإن توقفت بعض المخابز، خاصةً مع تدفق الناس إلى المحال التجارية في بداية الأحداث، ما تسبب بنقص بعض المواد التموينية، والتي إن استمر الحصار مع منع دخول الشاحنات فإن أزمتها ستتعقد، علمًا أن الناس في اليوم الخامس تمكنت من شراء بعض الخضار المتبقية في المحلات، وهناك من تمكن من توفير لوازمه من خارج المخيم بعد ساعات على الحاجز.
تكمن المشكلة في مسألة الغذاء بمن لديهم مشكلات خاصة كالحساسيات تجاه أطعمة معينة، كالحساسية من القمح، الذين يحصلون على احتياجاتهم من خارج المخيم.
ومع الحصار، ولمخيم تُجمع فيه حاويات القمامة مرتين في اليوم تحولت المنطقة إلى مكرهة صحية، بادرت بعض الأحياء وشباب المخيم إلى تنظيف شوارعهم وأزقتهم، ولكن لا يوجد مكان لتصريف القمامة، بالتالي فإن بعضها يُحرق خلال المواجهات، أما بعضها الآخر فمتراكمٌ على جنبات الطرق!
الحياة والحرب!
يحاول الناس التعايش والتكيف مع ظرف الحصار، وهم في ذلك لا يمتنعون عن التزاور إن رغبوا، ولا يمتنعون عن مشاطرة بعضهم مشاعر العزاء في حالات الفقد، نعم في المخيم طفل يولد، وكبير يُدفن، حياة وموت، وبينهما تفاصيلُ كثيرة من مرض، وعجز، وفرح، وحزن، وتناقضات كثيرة تعج بها جنبات المخيم، بين همسات خافتة، وأصوات مرتفعة، بين من لا يريد إلا البقاء حيث هو لانعدام الخيارات، أو رغبةً طوعيةً، ومن يريد الخروج دون عودة، كي لا يعاود الكرّة في سلسلة الإذلال على الحاجز، وهربًا من الحالة المفروضة على المخيم. وفي العموم فإن الحياة في المخيم بدون حصار صعبة، فكيف تكون مع الحصار وحالة التصعيد المتجددة؟
التعلم من التجارب
عند الإطارات المشتعلة في قلب المخيم ترتفعُ أصواتُ أغاني المقاومة، يرقبُ الشبان الملثّمون الذين يرتدي بعضهم ملابسَ تشبه ملابس مصلّي المسجد الأقصى في محاكاةٍ لمشهد الاقتحام والرباط والتصدي الدوريّ فيه. ثمّ تعلو الهتافات من الحناجر، الهتافات نفسها التي نشأت عند باب الأسباط في بلدة القدس القديمة، تملأ سماء المخيم.
لم تخلُ المقاطع المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي الواردة من مخيم شعفاط من محاولات الشباب المقابَلة بين مشهدٍ في المخيم مع مشهد آخر في فيلم أجنبي (fast & furious)، أو الربط بين أحداث الحصار وأحداث مسلسل باب الحارة الشهير بتركيب الصوت والصورة.
استدعاءات لمشاهد وأحداث تسهم في ترسيخ الوقائع، وتسهل إعادة استحضارها فيما بعد لو تطلب الأمر ذلك، وهي أيضًا بما توفره من مساحة مرحٍ وترفيهٍ تغري الشباب بالمزيد، وتخفف من مشاعر الضيق والضنك المتولدة بفعل الحصار والأحداث وتعطل الحياة الشخصية.
على هامش المعركة!
في كل الحروب والمعارك، وبوصفها ظاهرةً عابرة للزمان والمكان فإن الأصوات المتخاذلة والمحبِطة موجودةٌ، ولكنها تخفت إذا قوي الصوت الحر الذي يدفع باتجاه الصمود والبسالة، تخفت حتى تختفي إذا وَجدوا أنفسهم أمام “الوطنية”، ينجح صوت الصمود إذا تمكن من إدارة الحياة اليومية، وتمكن من توفير الحد الأدنى الذي يسهل الحياة بالتعاون مع عامة الشعب، وإذا صَرف هذا الصوت الحر أنظار الناس عن مطالبهم الشخصية إلى حالة التآزر، والتكاتف، بحيث يصنع سدًا لا يُخترق أمام ما يريد الاحتلال الوصول إليه، فإنّه يمنع الهزيمة المتمثلة في اختراق الاحتلال للحالة الاجتماعية.
مخيم شعفاط الذي فيه من كل بقعة فلسطينية أثر، منصهرةً فيه، مكونةً كل أطيافه، هو اليوم محط أنظار كل فلسطين التي تراقب وتترقب، وعلى وقع أحداثه تنقبض الأنفاس وتنبسط، يبعث الأمل، ويجفف منابت اليأس أو يحاول، سيراه البعض نجاحًا وآخرون فشلًا، ولكن ما يجب إدراكه أن العمل لأجل الغايات الكبيرة لن يأتي دفعةً واحدةً، هي نبضات متدفقة، وبناء متراكم، عله يومًا يحقق فتحًا مبينًا، السعي مطلوب، والتوفيق من الله.
رابط المادة على منصة إطار