عام

في ذكرى اعتقالي الأولى – في إيجاز

Views: 723

منذ مغادرتي لمربع الاعتقال وأنا أنتظر هذا اليوم لأكتب الفصل الأخير في الحكاية التي لا أرغب في العودة إلى فصولها من جديد، الاعتقال الأول هو الاختبار الأول للتحمل وللغياب وللانتظار وللتفاصيل التي تضامنا معها دومًا دون أن نعيشها، التجربة التي جاءت لتجيب على أسئلة كثيرة لديّ كعادة كل مسارات حياتي؛ سؤال وبحث عن إجابة، وكأنها مجرد بحث آخر ليس إلا.

 

ما قبل الاعتقال

لم تكن أبدًا أيامًا عادية، لكنها كانت فروسية نازفة، محاولة لوصل حياة هزتها الاعتقالات المتكررة في صفوف النساء بواقع حالة اعتقال كل أسبوعين تقريبًا بدأت في حزيران 2018 وانتهت أواخر أيلول باعتقالي.

كنت دومًا في سعي دؤوب تجاه هدف أو طموح أو غاية، هروبًا من الكسل والفراغ، من الموت، من كل ما أخشاه، ثم جاء تحدي مواصلة الحياة في موج الاعتقال الهادر، فكان واقعًا مريرًا، فانتظار الموت “الاعتقال” أشد من وقوعه، أن تنتظر يوميًا حتى الفجر، يجافي النوم عينيك، يسكنك الخوف، وتغرق في التفكير والتحليل، تتسامى بالدعاء والأمنيات.

بعد اعتقال صديقتي لمى خاطر بيومين كنت على موعد مع امتحان قبول لدراسة الماجستير، كنت ملزمة بالمواصلة، واستحضار ذهني في أشد ساعات الألم والتشتت، لا أبالغ لو قلت إني فقدت ذاكرتي إثرها، وكأن هناك شيئًا منها أُسقط دون وعي مني، وعبثًا أحاول استدعاءه!

أما وقد اقترب العيد ولي أخت في زنازين التحقيق، فقد تصاعدت أمنياتي، كنت أرجو الله أن يبلغني فقط يوم عرفة، ثم العيد، ثم طمعت أن أحصل على مقعد دراسي على الأقل، ثم أكرمني الله وأدرس شهرًا، لأتذوق طعمًا جديدًا، طوال هذه المدة كنت أسأل الله أن يبعد عني الاعتقال، وأجرد قلبي من كل هوى، فكم سمعت عمن يبغي شهرة من وراء اعتقال!

لم تنتهي حالة الترقب والانتظار، ولكني اعتدت على الجاهزية طوال تلك الفترة، كل واجباتي مكتملة، أبحاثي، قراءاتي، لكل يوم أعماله التي لا أغمض عيناي قبل إنهائها، أؤدي كل ما عليّ بهمة عالية، وإتقان، وسعادة أيضًا، وضمن كل تلك الأعباء كنت أحرص على التواصل مع بنات صديقاتي المعتقلات كواجب لا أريد إسقاطه تحت أي حجة واهية.

في الفترة الأخيرة وقد أعياني الخوف المستتر الذي يحركني لأؤدي ما عليّ سألت الله إن كان اعتقالي سيغلق الباب على اعتقال غيري فليقع، وسألته أن يمنحني الشعور بقرب الاعتقال، وفي عطلة الأسبوع الذي سبق اعتقالي شعرت أني لن أرى أمي مرة أخرى.

 

الساعات الأولى في الاعتقال

الاعتقال اختطاف، يخطف عمرك، يوقف عملك، يمنحك إجازة قسرية، يدفعك لتجرب شيئًا جديدًا في الشعور والتفكير، في مجاهدة النفس، في المواجهة، في التركيز والانتباه للتفاصيل ولكل ما يحيط بك.

كنت أحس بحب مَن حولي ودعائهم، فربط الله على قلبي طوال رحلتي قبل وصولي للسجن، كنت أحس بكل شيء، كان كل شيء يسيرًا على غير ما سمعت وعرفت من تجارب، ومع لحظات التفتيش الأولى عرفت أن كل شيء منتهٍ ولن أتعرض لأسوأ من لحظة الاعتقال ذاتها، فكان كل ما تلاها هينًا إلى حد ما لدرجة أني ناقشت من استلمني في سجن الشارون بشأن التفتيش فقد فُتشت 3 مرات إلى حين وصولي المعتقل.

 

أيام السجن

لعل اعتقالك بفعل يديك أخف وطأة من أن يتسبب غيرك في الإتيان بك، أن يخطئ فيقع، وبدلًا من الصمت والإنكار يأتي على ذكر العشرات، تفصيلًا أو تعرفًا على صورة، ولعل من أبلغ وأصدق ما قرأت عبارة في رواية “رجل الدولة البوليسي”: (إذا كنت أتذكر اسمك، فبإمكاني اتهامك)، ولست أروم جدالًا حول مسألة الاعتراف فقد أراه جريمة، وغيري قد يراه خطيئة، ولكن من يتربى على أن الفعل الشنيع خطيئة، تجده حين يقع فيه يهوِّن من شأنه، بينما من يُعظِّم الاعتراف فسيحرص على عدم الوقوع فيه، لأن أثره كالحروق من الدرجة الثالثة لا تزول، ومَن يدرك هذه الصورة سيحرص على الهروب منها فـ (العار يبقى والجرح يلتئم) كما أحسن المتنبي في الوصف.

لم تكن أيام الاعتقال هينة، في كل يوم تواجه سبب الاعتقال، ثم تواجه نفسك وأحاديثها، وما قد وقع في قلبك سابقًا، وما كنت تخشاه، وأمنيات الحرية، وأحاديث الذكريات التي قد نفر من بعضها، وننكر بعضها الآخر، ونصمت عن كثير منها، وتغزونا الأشواق، وتتوارى الدمعات، ويجتاحنا الصمت الذي قد نجد فيه بعض السلوى والأنس وإنه لنعمة كبرى!  وتواجه هموم الحياة في السجن اليومية، ومشاكله التي لا تفنى ولا تستحدث ولكنها تتحول من شكل إلى آخر في كل يوم، وكل محطة.

السجن يكشف لك ذاتك، يعريها حقًا، ويعيد صياغتك وصياغة علاقاتك، ومهما بدوت تشبه نسختك الأولى فإنك ولا بد تغيرت من وجه ما.

والسجن يعلمك ولدروسه نكهة خاصة، ومساحة خاصة.

والسجن يلازمك، ويصير كأنه بدايتك وكأن شيئًا لم يكن قبله! هل سيأتي يوم لا أقول فيه: كنا في السجن؟ ربما عند خوض غمار تجربة أخرى تتفوق بذكرياتها ولحظاتها على كل ما كان، وهل سيأتي يوم لا تحدثني فيه نفسي عما تفعله الأسيرات الآن؟ ربما حين ينتهي الحال بهن في بيوتهن.

 

ما بعد الاعتقال: “الحرية”، البحث عن حياة

نتحرر من القيود، من الاستعباد، من الحرمان، من مكابدة الانتظار، من روتين اليوم المبرمج على وقع التفتيش والعدد وتفاصيل يوم الأسير، من أشكالهم وأصواتهم وعباراتهم ولغتهم، ثم؟

ثم نستقبل ما بقي لنا من حياتنا وأحبابنا، وكأن حواسنا تعطلت مع الاعتقال والآن تبدأ رحلة تكيف جديدة، فالعين تبدأ تتكيف مع المحيط الجديد، حتى المساحات في البيت، تحتاج وقتًا حتى تنسجم معها، وكذا مع كل حاسة أخرى.

إلا أني مع الحرية لم أكن سعيدة، كنت عشت الحرية وأشواقها قبل خروجي بفترة، وحين وصلت أهلي كنت كمن أنهكه السير الطويل وقد تفوق التعب على الفرح، حتى أنك تحاول التعرف على ملامح الفرح في وجوه وابتسامات ومشاعر مَن حولك، وكأنك ترى ولا ترى!

أبحث عن تلك الهمة التي سبقت الاعتقال ولا أجدها، وأسعى لما قد يمنحني هدفًا لأستمر، لم يعد هناك ما يستحق الإسراع، ولا اللهث، ولا الشعور بالضغط، الوقت متوفر فلمَ العجلة؟ ما قد مضى من عمر لن يعوضه الغرق في سعي محموم مبعثر الاتجاهات.

لعل الشيء الوحيد الذي حرصت عليه بعد الحرية هو عدم العودة للغرق في مواقع التواصل الاجتماعي، فخرجت من غالبية المجموعات وألغيت إعجابي ب90% من الصفحات، ولا أقحم نفسي في جدالات تضيع الأوقات وتشوه العلاقات، ولعل المعيار هو ما تشتاق إليه في السجن وما لا تشتاق إليه، فالفيسبوك من الأشياء التي لم أشتق إليها فبدوت أكثر زهدًا به وبغيره.

وهكذا … تستمر الحياة

ليست النهاية

.

.

.

27 محرم 1441هـ

26 أيلول 2019مـ

على موقع مجلة إشراقات

رد صديقتي ورفيقة الزنزانة على النص:

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *