عام

مرح الفطرة

Views: 763

سلسلة استراتيجيات الحركة الحيوية

الرسالة الرابعة عشرة

مَرَحُ الفِطرة

أ.محمد أحمد الراشد

…أرتنا حياتنا الموزونة “مُكنة المجاز إذا ركِب آلة الشعر”، وقدرته التلاعبية التي تحيل الحزن فرحًا، والتراجع تقدمًا، والهمود حركة.

وتلك نتائج إيجابية تنتزع نفسها من الحقيقة السالبة تتيح للخطط الدعوية أن تطيل اللبث عند ركن المجاز الأدبي البلاغي، وأن تستعمله وتجعله وسيلة من وسائلها التأثيرية، حتى لكأنها في حلف معه وميثاق، وعبر المجاز تستطيع أن تديم وتيرة الحماسة والإنتاج في اوقات المصاعب والمحن وحصول الموت الذريع وفقدان القادة.

يذكرنا الراشد في حديثه عن التربية الاستدراكية بقواعد ::

عفا الله عما سلف، ودعنا نتغافر، ولنودع الجفاء ونحفظ الدماء.

ومحور هذه التربية الاستدراكية: استلهام مغزى الحياة من صورة الموت، فإن الحكماء والشعراء وشُرّاح الإيمان من الفقهاء: كلهم أجمعوا على أنّ النفس ينبغي أن لا يستهلكها الحزن، لأن عطاء الباذلين يتواصل، وسنده يظل مستمرًّا،..

وبعد جولة أدبية مع الموت في نموذج من الشعر العالمي ومقال للمسيري رحمه الله، يقول ::

الموت تصاحبه ولادة معانٍ تحريكية للحياة، تلبس لباس الأمل عمومًا، وتحدي الصعاب، واستلام الراية، والإبقاء عليها مرفوعة، ورفض وسوسة الاستسلام، وتلك هي “الصنعة الدعوية” في أجلى صورها، وتلك هي نبضات “حركة الحياة”.

ولكن شأن الحياة الغريب يجعل من كل تلك المنغصات العاصرات والأقدار السيئة ضغوطًا على الجانب التقي من النفس تدعوه لأن يكون في الموقف الأعلى المفترض له، وتميل به إلى الرفض والتحدي وحمل المسؤولية التغييرية الصراعية، فتكون عزائم تحاول العناد في موقف المواجهة،…

ومن صفات القَدَر أحيانًا: المفاجأة، فليس كل ما يتمناه المرء يدركه، بل يصده ما ليس في حسابه….:

بَيْنَا الفتى يسعى إلى أُمنِيّهْ

عَنَت له داهيِيةٌ دُهْوِيّهْ

فاعتقلتْه عُقلة شَزْرِيّه

وهذه الأحوال هي التي تنقض الخطط التي لا تنتبه للمعاكسات، ولذلك يكون حساب المخاطر أحد اجزاء فن التخطيط.
فالدواهي القدرية تسجن الفتى وتعتقله على نحو حادّ قوي، ولا تدعه يتملص إلّا أن يشاء الله.
وهذه الاعتقالات الفردية هي الأقل أثرًا في تحريك الحياة، مع أنها قد تكون كثيرة العدد…(!!!)

 

القدَرُ يتستر .. ونباهة المؤمن تُميط لِثامَه

والأقدار حين تقع: لا تنزل معها وثيقة فيها اسمها وعنوانها، إنما تتقمص شكل مظاهر يفهمها صاحب الإيمان الذي حاز بعض الفقه، فيدرك انها أقدار يشاؤها الله.

* والحكمة فيها : أنها اختبار من الله لعباده: أيدركون مغزاها فيوحدونه؟

وذلك هو مضمون آية “وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ” الفرقان/20.

فالله تعالى بيده الخير، ويهب ما يشاء لمن يشاء، ويحرم من يشاء، وهو على كل شيء قدير.

وكذلك الدعاة ومن يقف في طريقهم، وإن في صبر الدعاة وشموخهم وإصرارهم على الصدع بالمعروف والنهي عن المنكر لأشد فتنة تستفز الدنيوي والعَلماني والظالم، وقليل من هؤلاء يدرك معنى الفتنة في المنطق الإيماني فيتوب ويتصالح مع الصالحين.

تداول الأيام يحتاج الدفاع..ثم تقدُّم ومبادأة وصراع

– فأما ما هلك بالفتنة فمن ظُلِمٍ ولا بُدّ، إما في كفرٍ أو معاصٍ، أو تقصيرٍ في دفاع.

– وفي أمثال الناس الموزونة : (لكل دولةٍ أجل..ثم يُتاح لها حِوَل) أي التحول والتبدل والتغيير.

– يعرض لآثار التقصير في الدفاع والعمل الدعوي، )..يؤدي إلى نتائج سلبية عديدة تجتمع حتى تبلغ درجة إزالة الدولة، فهذا المعنى موعظة تخطيطية تستحق أن نلبث عندها متأملين لمغزاها، لأن الكيان الدعوي تصدق عليه هذه الظاهرة أيضًا وتسري عليه المؤثرات التي تعرك الدول، لأنه كيان سياسي كذلك، وهو دولة مصغرة، ومفاد التجارب القدرية يوضح أن الكتلة الإيمانية الكبرى المنتشرة في الآفاق يجب أن نحرسها من غزو الإهمال لها، وأنواع التقصير، لئلا تنحدر في طريق الأفول وتصرعها كتلة أخرى تكون أمهر في استخدام محركات الحياة، بل الأمر يتجاوز اتخاذ الحيطة إلى مواقف المبادأة والتطور ورفع قابلية الإبداع والكفاية التنافسية،..

وذلك يعني وجوب الانطلاق الدائم من بؤرة تخطيطية في كل قطر تحاول إتقان الممارسة الدعوية في حقول عشرة :

  • العناية بالفكر الإسلامي العام ورفع مستويات رهط من أصحاب المكنة الفكرية ليكونوا مفكرين يجددون الفكر الدعوي بشكل دائم.
  • وتوسيع النشاط الإعلامي الإسلامي العام والدعوي الخاص، ومن خلال الفضائيات بخاصة، وشبكة مواقع إنترنيت واسعة.
  • ممارسة التربية التطويرية والتدريب الإبداعي والإداري بشكل مكثف، واستخدام الوسائل والآلات التكنولوجية الجديدة.
  • المطالبة بالحريات وحقوق الإنسان، وتوسيع التوعية السياسية للدعاة والجمهور، والتعاون مع التيارات والمنظمات والشخصيات الساعية نحو ذلك ولو كانت عَلمانية.
  • توسيع طبقة رجال الأعمال الدعاة، والحرص على مزيد من المال الحلال.
  • المضي قدمًا في الممارسة السياسية والبرلمانية وما يلزم ذلك من تربية طبقة سياسية.
  • العودة إلى الحياة المسجدية والمواعظ والعاطفيات بمقدار النحت الحاصل في المستويات الروحية بسبب كثافة الانشغال السياسي.
  • توسيع العمل المؤسسي بمقدار الاستطاعة مع رصد أوقاف له في بلاد حُرة.
  • إظهار زعامات إسلامية تؤجج الحماسة وتحقق الرمزية الدعوية.
  • صلابة المواقف، وإبقاء الجذوات الجهادية، وصراحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع التمييع والتنازلات والحلول الوسط والسيرة الرخوة،…

…. ولا بد لنا أن نتطور بما يوازي الأحوال المستجدة، وبدون التطور قد يسري علينا قانون “عواقب التقصير في الدفاع”.. .

ندور مع مراد الله الديني .. لنزيح أقدار السوء

– ونظرًا إلى كون هذه الأقدار منسوبة إلى الله، والنفس تستحضر صفات العظمة والجبروت لله تعالى، وأنه قاهر غالب: دخل الوهم على كثير من الناس واستبدت بهم ظنون الاستسلام للاقدار السيئة، وإمرارها، والتجاوب معها، وموازاتها، والرضا بها، وفي ظنهم أن الله يريدها لهم، وغاية ما يكون منهم الجزع، وندب الحظ، وشتم النفس.

– هناك فرق بين مراد الله القدري، الذي يريده امتحانًا للبشر، وبين مراد الله الشرعي، الذي يريدهم من خلاله أن يصارعوا أقدار السوء بأقدار الخير، وكلها من عند الله..

– *والدهر ليس بمُسعِفٍ مَن يجزَعُ* / أبو ذؤيب الهذلي

فالمعاكسات والمصائب إنما يزيلهما أو يخفف آثارهما: قلب قوي لا يهتز، وإنما يصر على مواصلة الطريق، ويتحداهما، ويبقى يدأب ويحاول ويصبر على لأواء المقاومة والرافض للواقع، والذي يلوذ بالشكوى فقط ويملأ جوانب حياته آلامًا لن يستدرك على حاله وإنما يزيدها تعقيدًا.

– إنّ أعتى ما تُبتَلى به النفس : الهموم، فإنها تؤدي إلى قلق وانفعال، فيؤدي ذلك إلى أرق وقلة نوم، فتنهار معنوية المرء، ويتعب البدن، وتفجؤه بعد الليل : أصوات حركة المخلوقات وأصوات الطير، فتتضاعف المحنة إذا لم تكن تغريدًا وكانت نعيقًا، ويكون الانهيار النفسي سائر ذلك اليوم، وربما استمر لأيام..(!!)

– وتسعة أعشار هذه الهموم المدمرة إنما تغزو النفس حين تغفل ويقل تدينها وتوكلها على الله، فتقلق، وأما نفس المؤمن فهي واثقة مطمئنة تغشاها السكينة، ولو حسبنا حالات الأرق في كل ليلة في المدينة كلها لكانت تمثل نكبة اجتماعية، هي الآن بالفعل كذلك، وفي ذلك دليل على الحاجة إلى الدين وتأثيره التربوي النفسي الإيجابي في الحالة الاجتماعية.

– وآخر يرتجف خوفًا حين يرى ساحة السياسة وبحرها فيهما تعب ودماء وذهاب أموال وهموم، فيعتزل، فتدب له الوساوس، فيكتال من الذنوب ويتساهل .. (!!!)

ولو كان وضع نفسه في تيار العمل لانشرح قلبه وما ركبه هذا الهم الثقيل، ولاستروح للبذل والعنت يلقاه في سبيل الله، ولعلِمَ أنّهما ضريبة لازمة لدخول الجنة، ولكن الهمم مراتب، وفهم فقه الأقدار مراتب أيضًا.

مَدَدٌ من الله ينصر الشجاع المكافح لأقدار الشر

–  فمن طبيعة الحياة أن يكون فيها صراع بين قدريْن : قدر الحرمان، أو النوال.

–  ومن ظواهر الحركة الحيوية : أن لا يطول العسر ولا تدوم الشدة.

– (لا بد للناس من تنفيس) ( يعني أن الله تعالى ينفّس عن عباده وقتًا ما، ويكشف البلاء عنهم حينًا)

– وبمقدار عمق الفساد ونفوذه وتجذّره في الحياة : يكون زخم الإصلاح وامتداده، والله رحيم بعاده، فيجعل همم الدعاة ورجال الإصلاح عالية، ويمنحهم صبرًا ومهابة وقوة ووعيًا في السياسة وطرائق الحركة الحيوية وفهمًا لموازين تأثيرها في الحياة، فيكون حكم الصالحين المؤمنين أطول، ويكون الإصلاح ليس مجرد تنفيس عن ذلك الجيل، بل معالجة لتراكم السوء.

اُبذر الخير ونَم .. تُدَغدِغْكَ عند الصُبح ثِمارُه

–       الحرص على فعل الخير، بأشكاله وأنواعه وبمقدار تعدّد موارده ومسالكه، وهو تصور ديني أتت به الرسالات الأولى أيضًا:

وكذاك لا خيرٌ ولا .. شرٌ على أحدٍ بدائمْ

–       ولكن المسلم يؤمن أن عوامل الحسم في هذا التدافع ليست مادية فحسب، وإنما يُعين الله عباده الصالحين، بتثبيت يُنزله على قلوبهم وسكينة، وبذكاء منحه لقادتهم، فتكون ومضة تكتشف الثغرة والفرصة، وبعلو هِمم وزيادة صبر، وبما يعاكس ذلك يقذفه في قلوب الكافرين والفسقة، من حماقة وجزَع وشكّ وحَيصة وعَجلة وهزيمة نفسية.

–       ميزان مقارعة القَدَر بالقَدَر، وهو ركن علم تحريك الحياة، وأصله ومنطلقه : أن الفطرة تسعى لحرية وانعتاق .. ومرح ..!!

–       والمنازعة التغييرية : يلزمها نوع توكل على الله.

قال ابن حِبّان : (التوكل هو نظام الإيمان، وقرين التوحيد، وهو السبب المؤدي إلى نفي الفقر ووجود الراحة)
واستطرادًا : هو السبب المؤدي إلى نفي الهزيمة وتحصيل النصر، وإلى نفي الارتجال وإتقان التخطيط، ونفي الترهل والاستواء على وتيرة الإنتاج.

… فإن مبحث تحريك الحياة يدعونا لاستحضار فقر الدعوة وقلة حيلتها لتنعم بالراحة في تنفيذ خططها بعد الرهق والسجون.

–       ولو أنهم كانوا يؤمنون بتفاصيل معاني القدر كما قررناها لأكثروا اللبث في المساجد بعد كل مؤتمر ومقابلة تلفزيونية يسألون الله أن يرفع عنهم قدر الضعف ويمنحهم التفوق..

–        وتتوزاى مع الأقدار الخيرية المستجلبة بالدعاء وعمق التضرع : أقدار خيرية أخرى يُنزلها الله تعالى بحكمته في وقت دون وقت، وهي التي يشير إليها بيت شعر الاستنهاض :

إذا هبّت رياحك فاغتنمها .. فإنّ لكل خافقةٍ سكونا

وهي رياح داخل النفس في صورة ثقة وطمأنينة تغمر القلب، مما ذكره تعالي في سورة الفتح : ” فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ”.

 تناوش التمكين بجوامع ثلاثة :

  1. إيمان فيه إخبات.
  2.  وعي يتوسل بالرصد.
  3. نفضة تتولى الضرب في الأرض

إذا انغلَقتْ فاسْكنْ .. وإن واتتْ فاصدع بتكبير

ولكن هذا الحشد من دلائل وجوب مصارعة القدر بالقدر لا يعني العناد اليابس، ولا المضي في كل الأحوال، ففي حالتين يجوز للمؤمن أن يستسلم لقدر السوء :

  1. إذا بذل كل ما في وسعه من أسباب يستطيعها لدفع الشر، حتى يصيبه التعب الشديد والعجز، فيتأول أن هذا القَدَر الذي يصادمه هو من نوع الأقدار الجاثمة الحتمية التي يريدها الله لحكمة خفية.
  2. أو إذا اجتهد في فهم صفة القدر المحيط به : هل هو قدر خير أم قدر شر، فتساوت عنده التحليلات، ولم يتراجع عنده حكم عليه، وحار في التقويم، وعجز قلبه عن إفتائه بأحد الموقفين.

ففي هاتين الحالتين يجوز للمؤمن أن يتعطل ويكون حياديًا، ويكون مثل ذاك الذي (كان إذا تعارضت آراؤه في خطب من الخطوب) قال :

دَعَها سماويةً تجري على قَدَرٍ … لا تُفسِدنّها برأيٍ منكـ منكوس

أما إذا انضبطت البوصلة، فامض واقتحم … فأنت لها !

 اللهُ أعلمُ بعباده الصالحين … والعاقبة للمتقين

 ولربما تشهد المصاولة الطويلة وطيسًا حاميًا، وذلك قَدَر لا يجفل منه المؤمنون، فما زال دأب الظالمين أنهم كلما أحرجهم قول الدعاة وكشفوا زيفهم:

أسرعوا إلى سجن وضرب، لا يدرون أن القَدَر يسوقهم إلى ذلك ليرتفع شأن الدعاة، وتكتمل مُكنة التأثير..

 وتيار العلم السلفي المعاصر، بعلمائه وكتبه وجمهوره : يمثل منظومة من منظومات تحريك الحياة نحو أقدار خيرية تنتظر الأمة، ولئن جعل أحدٌ مقالات التوحيد الزكية تنحرف إلى منافسات خاطئة لمن في الساحة من دعة يمارسون التشكيل الحضاري الإسلامي عبر التنظيمات والأحزاب والممارسات السياسية والمعرفية العامة : فإن ذلك إلى زوال، لأن قلوب المؤمنين تنكر التوترات، وسيتطور الأمر إن شاء الله إلى مصافحات وتعاون وفق قوانين التكامل، وأمثال محمد علي تزيحهم الأقدار، وتبقى عصائب الدعوة الإسلامية تواصل السند .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *