عام

صناعة الفرق؛ سر الوجود

Views: 792

في كل بداية تبدو الأهداف والغايات أكثر وضوحًا في نفوس أصحابها، ولكنها حين يتطاول الزمن، وتعترض أصحابها العقبات والتحديات؛ تختلط بما يشوبها فيضعف حضورها في النفس والفكر، كما قد تضعف الهمم لبلوغها، وربما تختلط الرؤية في ذات النفس، ويجرفها طوفان الحياة، فتبتعد عن أصالة الفكرة، وعن متطلباتها، ويحل مكانها فراغ لا يملأ الغايات الكبرى، ولا يعين على الثبات في وجه العواصف، ولكنه يخدم الذوبان أكثر فأكثر في مد الحياة الجارف!

 لعل أولى مهمات الصحوة الإسلامية عندما انطلقت في زمانها أن تقوم بمهمات إصلاحية كبرى في هذا المجتمع، تحافظ فيه على قيم الإسلام، وتدعو إلى الفضيلة والثبات مهما طغى طوفان المادة وارتفع، وأن تجعل الله عز وجل محور النفس في دورانها في الحياة أثناء قيامها بمهمتي العبادة والاستخلاف، فتكون الثانية في الأولى تملأ الشعور ويترجمها السلوك، فتكون الحياة كلها رحلة عبادة وإن كانت في علم أو عمل أو نشاط أو اعتقال أو مطاردة أو إبعاد أو قتل فكلها عبادة ما دام الله من وراء القصد، ولا تُقصد الأعمال لذاتها وليس فيها للنفس نصيبًا.

 هذه المهمة الكبرى التي لا تتقادم ولا تصبح أثرًا من الماضي، هي واجب على كل مسلم يفقه معنى حياته ومعنى وجوده في المكان الذي اختاره الله فيه، ويعي جيدًا معنى أن يكون مسلمًا راسخ الإيمان، قوي الخُلق، ثابت المواقف، لا يبيع أخراه بدنياه، ولا يقدم مكاسب الدنيا على الآخرة.

 إن المواقف الحقيقية المطلوبة من المسلم تتمثل في أن يعلي كلمة الحق، أن يقف في وجه الباطل، في وجه الفتن، في وجه ما يخالف القيَم مهما كلفه ذلك من ثمن، فالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ هدف لا يدخل في مصالح الساسة، ولا يصح أن يوضع على القواعد السياسية وكسب الجماهير، فلا يُمكن أن نشتري رضى الناس بسخط الله بدعوى موازنة مصالح، لأن المبادئ أعلى، ولأن المبادئ أوْلى، نحقق ما يحمي منطلقاتنا، وما يُبقي الله أولًا في كل حركة وسكنة في هذا العالم الآخذ بالاتساع، ثم كل شيء يأتي وحده.

 لا قيمة لانتصار في معارك جانبية، لا قيمة لفوز بقاعدة جماهيرية، لا قيمة لمقعد في انتخابات مهما كان نوعها وحجمها، ما دمنا في معاركنا الذاتية منهزمين، نخشى قول الحق، ونخشى أن يكون لنا موقف، ونتردد في مواطن الإقدام، وأصبح اكتساب الأصدقاء ورضى الناس غاية فنخشى أن نقول لهم هذا فتنة وهذا مرض وهذا عصيان، ثم ندعي لأنفسنا أننا الأقرب إلى الله، وأننا الأعبد، وأننا الأصلح والأجدر والأكفأ، هذه دعوى يكذبها عدم القيام بالواجب الأول.

 مشروعة تلك الموازنات في كل المعارك التي لا يكون في كفتها الأخرى وفي أصلها؛ الله عز وجل، فكيف نرجو تقدمًا وتغييرًا وإصلاحًا وتعميرًا وخلافة من بعد ونحن عاجزون عن اتخاذ موقف تجاه خطأ سلوكي في المجتمع؟

 أمام المعارك الكثيرة التي نجبر على معاينتها أو خوضها فعلينا أولًا: ألا نقصر بحق الله في العبادات المعروفة، أما ثانيًا: فعلينا أن نجعل كل سعي لنا في الحياة لأجل الله سبحانه، في علم أو عمل أو نشاط أو موقف، ثم ثالثًا: أن نفرق بين المبادئ والموازنات، ومبادئ الإصلاح في الدعوة لا يُفاوَض عليها، ولا يصح أن تكون علاقتنا في المجتمع مع الناس “لكم دينكم ولي دين”! فإذا كان لشركات أو مؤسسات أن تحتفل فليس لها أن تنشر ما يعادي قيم المجتمع كالاعتزاز بديانة كفرية! وليس لنا أن نصمت ونسمح بما يجري في داخلها بدعوى الحرية، وإن كان لمحاضِر أن يدرس مادة فليس له الحق أن يشترط جلوس كل طالب بجانب فتاة ليبدأ محاضرته، وليس لنا أن نصمت، وهكذا في كل ما يجري حولنا صغر أو كبر، ومَن يفرط في الصغيرة فهو للأكبر منها أضيع، من كشف القدم إلى الانحلال والسقوط الأخلاقي والديني.

 إن من المعاني العظيمة التي يشير إليها الإمام فخر الدين الرازي في قوله تعالى: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” أن (لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس) أي أن كل المجتمع مشترك في الواجب حتى قيام طائفة به ليسقط عنهم التكليف، فأين نحن منها وقد اخترنا مهمة إصلاحية لا تتقادم ولكنها مستمرة ما استمرت أنفاسنا؟

 إذا كانت أقصى غاياتنا هو كسب جولة انتخابية؛ فلنجلس في بيوتنا لأننا بهذا لم نعد حملة رسالة، ولم نعد نختلف عن الإنسان الذي همه مأكل ومشرب وملبس وليس له هم إلا صراع دنيوي فانٍ.

 إذا كنت تملك محاربة خطأ بلسانك أو بقلمك فلا يسعك أن تنتقل إلى قلبك لأن هذه هزيمة وتحايل على النص، فالتغيير بالقلب يكون عند العجز في الأولى والثانية وليس أمرًا اختياريًا تختاره وفقًا لهمتك التي قد تكون في حالة ضعف وترهل! فلا تستهن بكلمة، أو موقف منك معلن.

 كمسلم عليك أن تصنع علامة فارقة في مكان وجودك، قبلة تهدي الوجود، وصاحب همة يستمد عزمه من نور الله، نحلة لا تهدأ، تدفع ضريبة الاغتراب في زمن المادة بإبقاء البوصلة في وجهتها، وتواجه محاولات الذوبان بسيل قطرات من محاولات مستمرة جادة للإصلاح حتى وإن بدا الطوفان عاليًا فكم من زبد يرتفع فإذا ما وقفت تواجهه؛ تبخر وانكشف زيفه وانهزم في ذاته قبل أن يغرقك ويصيبك منه رذاذ إثمه.

 

25 محرم 1438هـ

26 تشرين أول 2016مـ

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *