في القدس حديث الأُنس والذكريات
أهيم بقاع القدس ما هبّت الصَّبا
فتلك رباع الأُنس في زمن الصِّبا
حروف أستشرف بها إطلالة على زمان تولى، حين كانت القدس كل التفاصيل التي أعرف، كل التفاصيل التي أحب، كل التفاصيل التي تملأ عليّ الماضي والحاضر والمستقبل.
من بعد بلاديَ الأولى؛ كانت القدس منحة وملاذًا آمنًا بعيدًا عن كل الغوائل والشرور، في بقعة شرقي المدينة، يطويها النسيان أو التناسي، كانت البداية إسراء إلى حيث يستريح الجسد في ظل أنحاء قدسية مباركة، تمده بالهمة وتشعل فيه نار العزيمة، وتعرج بروحه إلى حيث تزكو وتصفو.
لم يكن عبثًا أن كان أول العهد قرآن في القدس يجمع بينهما في اتساق تام عجيب، بركة الحرف وبركة المكان في آن، نعمة كنت أدركها، أستشعر عظم ما مُنحت، وما حُرم منه غيري، وأحرص على الإفادة منه قدر المستطاع، حياة في حياة إلى ما لا نهاية، فإن كانت الجُدر والاغتراب وسحب الهوية ومنع الدخول أسوارًا تحول دون بلوغ المرام؛ فإن نفحات الذكريات التي صنعناها ثم صنعتنا وصاغتنا لها سحر يعود للبيان عن أسراره كلما هبت النسمات.
في لحظات الافتقاد، والبحث عن الروح التي جرّدتها أسباب التدافع في حياة تطحننا، في لحظات عابرة ذات وميض، يغدو معها قول الشافعي: (إني لأجد بيانها في قلبي، ولا ينطق لساني) توصيفًا يوجز عجزي عن نقل القاريء إلى تلك اللحظات مكانًا وزمانًا، فتلك المشاهد يخبرها أهلها وحدهم، وتمنحهم وحدهم أسرارها، فتغدو محاولة لاشتقاق حرف من رحم روح تجد القلم متملّقًا غير منصف.
في القدس، لا أسواق، ولا شوارع، لا زقاق يُجَنِّبك الزحام، ولا ظل شجرة يقيك حر الشمس، ولا أسوار تريح إليها، يسكن معها بعض الوجع، وتزفر بعض الألم تنهيدة وتسليمًا، وربما بدمعة تعانق الوصول، ولكن القدس؛ المسرى الذي فيه تولد من جديد، فكيف إن سبق ولادتك فيه مرات ومرات؟ كيف إن كنت تشتاق لتلك الولادة؟ حين درجت أول مرة فيه، وحين خطوت تدخل من أي باب شئت؛ أميرًا يرتل الأنفال والزمر، ومتعلمًا بدواة وقلم، وعاشقًا يتبتل في ظل قبة، يحشد الأمنيات، ويرصد مشاريع الحُلم، ومصليًا كلما سجد ارتفع، وكلما دعى رسخ يقينه بالإجابة، وصلاة عيد تجمع الأحباب من كل مكان، وطفلًا غير الأطفال، محظوظًا بهدية من المسجد الأقصى.
حين عشت السبق في كل شأن؛ من ولادة الفكرة إلى حصارها، من الإنجاز الأول إلى حيث شبِّ فينا كل شيء وشاب إلا تلك الروح التي كلما تنسمت عبق اللحظات الأولى؛ مع القرآن في الامتحان الأول، في قاعات كلية الدعوة جنوبي المسجد الأقصى، وفي قاعات باب الرحمة، وفي المصلى المرواني، وفي مكتبة المسجد الأقصى، كلما فعلَت تاقت لتعود لأصل كل شيء يعيد إليها توزانها المفقود في خضم حياة تعج بالمتناقضات.
وحين تتدافع الأسماء والصور، تفجعنا الحياة بمن نفارقهم، وكلما نقصت حبة في عمرنا ذي الأجل المسمى؛ ازددنا تقديرًا لانصراف رفقاء الذكريات في شؤون الحياة المثقِلة، وعادت الصورة أصفى، لربوع تنبض فينا حياة تمدنا كلما انقطعنا وقصرنا، ويتجدد فينا الإسراء والمعراج مرة تلو المرة، مجردًا من الناس وأحوالهم.
إننا إذا فقدنا تلك الوشيجة والذكريات والتفاصيل؛ فقدنا كل شيء.
16 رمضان 1438هـ
11 حزيران 2017مـ