عام

لمى خاطر وطيف من ذكريات السجن

Views: 945

في مثل هذه الأيام من العام الماضي حدثتني نفسي لأكتب عن لمى وأنا أفارقها أسيرة، ولكنّ أَسْرها لم يبقِ لي حرفًا على حرف، ولم أستطع البوح بما حمله قلبي وفكري، ومضت الأيام وجمعتنا في المعتقل، وكلما التقينا باعدتنا رحلة نقل أخرى حتى عشنا سويًا في زنزانة واحدة، وأحسب هذا من أفضل ما حصلت عليه في رحلة اعتقالي، فالصاحب في السفر نعمة.

كانت فرصة اكتشاف نعرف فيها ما جهلناه عن بعضنا في فضاء الحرية وقد جمعتنا خارجه الأفكار والهموم على حساب ذواتنا، وإذا كان السفر يُسفر عن أخلاق الناس؛ فإن السجن يفعل، وهناك عرفت لمى الإنسانة، والمجاهدة، والكاتبة، لمى الأم، والصديقة.

حين خرَجت لمى من التحقيق خرجت نقية، تحمل من قيم التسامح ما لا يطيقه الكثيرون وأنا منهم، خرجت قوية الشكيمة، لم تُضعفها ليالي التحقيق الطويلة، ولم تزحزحها قيد أنملة عن قول ما تراه حقًا دون حسابات رضى البشر عنها، ودون الخشية من الصدام.

تلك التجربة الفريدة في الصمود لأربعة وثلاثين يومًا، صعبة ومؤلمة، لكنها نحتت فيها الكثير، ولم تكسر قلم لمى، فكتبت ما يستحق أن يُقرأ ويُنتظر، كتبت فيما استطاعت من وقت اقتنصته بصعوبة في لحظات صفاء أو لحظات حضور الذهن أو في عتمة الليل عندما تتحرر من النهار وأعبائه التي أخذت من وقتها وصحتها، حتى كنت أسأل نفسي إن عرفت لمى أو رأيتها أو حادثتها، فوجدتني في يوم وداعي أقول لها أن السجن لم يمنحنا فرصة كافية لنتحادث، ولعلنا خارج الأسوار كنا نتحدث أكثر!

لمى ما كانت توجه أمرًا مباشرًا، ولا تزعج أحدًا بطلب، مترفعة دومًا، تعرف كيف تكون إمامًا وقدوة مؤثرة، كانت تعيش بكُليتها لأجل فكرة تعبر فيها عن كل ما تراه واجبًا مستحقًا لها وإن كان داخل الأسوار، وإن قلت الحيلة وضاقت السعة، مؤمنة بجدوى القليل المستطاع الذي تحمله النفس والمكان، سواء كان بالتضامن مع الأسرى أو مطلب تريده الأسيرات أو شعورًا وجدانيًا مع قضية محلية أو عربية أو عالمية.

أحب الكثير من ذكرياتنا معًا السجن، الكتب التي تشاطرنا معها العبارات التي اقتبسناها واتضح تقاطعنا الكبير فيها، ففي الرواية كانت الأم، وأحلام بالحرية، وثمنًا للشمس، وفي الكتب كان الشاهد المشهود كسيرة ذاتية، ودروس في العمل الإسلامي، وطبائع الاستبداد، و30 يوم ثورة، وغيرها، كنا نتبادل الكتب، والعبارة، وننقد فكرة أو نعلق عليها، وكثيرًا ما أعجبتنا أقوال ابن العربي فاستعرنا منه “لا يُعوَّل عليه” وأدخلناها في تعليقاتنا على مواقف كثيرة تمر بنا أضفت على الأجواء شيئًا من المرح.

ثم اكتشفت شغف لمى بالإنشاد، وحافظتها الجيدة، فاستذكرنا معًا الكثير من كلمات أناشيد قديمة، عفت الذاكرة عليها، وتوقفنا مع عدد منها جعلناها سمر ليالينا حين يحلو لنا ختام الليلة في النصف ساعة الأخيرة قبل حلول الساعة 10 مساء وهي الساعة التي يمنع فيها علو الصوت كما اتفقت الأسيرات بينهن، فعمرت أوقاتنا أناشيد كـ “ماضٍ وأعرف ما دربي”، “النور ملء عيوني”، “من أجلك يا فجر الإسلام”، “السجن جنات ونار”، “موج البحر”، وعدد من أناشيد الوعد وغرباء، إلا أن لمى كانت تحب كثيرًا “سنصلي في القدس” أيضًا استماعًا ودندنة وأداءً.

من النشيد إلى واحة الشعر، استفزاز آخر للذاكرة لتعيد صقل حافظتها، وعلى فترات متباعدة تحلو المنافسة بالإتيان ببيت شعر يبدأ بآخر حرف تقوله إحدانا، ولا يخلو الأمر من طرافة أبدًا، وفي باب الطرافة اللغوية تخلل أحاديثنا معًا في الغرفة الكثير من التصحيحات اللغوية خلال تبادلنا حديثًا يوميًا أو في نقاش حين تعترض عبارة فصيحة فيها خلل جلي في سياق حديث باللغة الدارجة.

ومَن منا لا يحب الطعام؟ كانت لمى تجيد إسعادنا بما تعده يوميًا، من مكونات قليلة، لكن البركة حاضرة، والنَفس الطيب، حتى فنجان القهوة الذي تشاركناه لا أجد ما يعادله في الحرية إلا طعم الحرية، وذلك الفنجان الذي كنت أسعد في إعداده لنا لا أجيد صناعته الآن، وكأن سرًا في تلك اللحظات ليس حاضرًا معي الآن! وكأن الغياب والحب الذي نحِنُّ إليه أحيانًا يستأثر بكل النكهات، فهل كانت النكهات وهمًا؟

كنا نقف أمام الكتابة لأهالينا وأحبابنا كثيرًا، فليست الكتابة سهلة، نلقي الأسئلة على بعضنا عل إحدانا توحي للأخرى شيئًا، “عن ماذا نكتب؟ ما الأولوية؟ عن ماذا نسأل؟” لم أكتب ولمى تفاصيل يومية في دفاتر، ولكننا كتبنا رسائل لعلها لم تحمل كل ما نريد، ولكنها كانت تروي ظمأ المنتظرين، ولمى كانت مسكونة دائمًا بزوجها وأبنائها، بوالديها، ووالدي زوجها، تحبهم، وتتابعهم بعين من التقدير والإكبار، وتفكر فيهم، في الكبير والصغير، لكلٍ عندها نصيب تحمل همه بقدر ما يتيح لها السجن من معرفة وتواصل، تشغل بالها بما قد تحمله السنة عليهم وخاصة بيسان التي تأخرت عن الالتحاق بجامعتها، ويحيى الذي كبر عامًا في غيابها، ويمان صديقتها الصغيرة، وعز الدين الذي بدا وهو يحدثها عبر الإذاعة كرجل مسؤول، وأسامة الذي افتقدته كثيرًا ولم تره إلا مرة طوال اعتقالها، وكانت تمني نفسها بالحرية لتراه، وزوجها بوفائه ووقوفه معها وإلى جانبها دومًا.

ربما كانت لمى كاتبة سياسية ولكنها إنسانة يملأ قلبها حب دافئ صادق لعائلة ممتدة ترى العطاء لها أولوية، والتوازن في العطاء والبذل في الميادين المختلفة التي تحضر فيها واجبًا.

تعود لمى ترسو سفينتها، بعد عام على الغياب، لا ينصفها الحرف، ولا يتسع المقام لكل الذكريات، لكنه الشوق المعلَن لحُرة أَبية.

 

22 ذو القعدة 1440هـ

25 تموز 2019مـ

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *