عام

التخمة الثقافية ورياضة التفكير

Views: 2956

التخمة الثقافية ورياضة التفكير

اليوم بعد تحول القراءة إلى عادة شائعة، لم تعد الأسئلة المهمة هي تلك التي كانت وثارت منذ عدة سنوات: أتقرأ؟ لماذا لا تقرأ؟ ماذا تقرأ؟ وكيف تقرأ؟ بل السؤال الجوهري: ماذا فعلت بك القراءة وماذا صنعت منها؛ في واقعك، في حياتك، على مستوى إنجازك الذاتي أو المجتمعي؟ وهو امتداد لسؤال: لماذا تقرأ؟ الذي يحدد السلوك ويهيء النفس لممارسة ما قررته مسبقًا كنتيجة لسلوك القراءة.

يتوجه الكثير من القراء إلى الروايات لسهولة التعامل معها فهي لا تحتاج لكثير جهد في التفكير المعمق أو حتى استخلاص العبر، تعبر عن مرحلة أو حالة بين العاطفة والألم، وغالبًا ما تلامس حاجة القاريء الذاتية لتلمس ألمه أو تعزيزه، أو حتى تسري عنه، وإن كانت هناك حالة من الوعي في تقييم الرواية المضيعة للوقت من الأخرى التي تخلق حالة نفسية جديدة؛ إلا أن لها أبعادًا أخرى وتأثيرات على الوعي الباطن، وعلى المستوى اللغوي سلبًا وإيجابًا، ومن ثم على السلوك، فكثرة التعرض للرواية التي تعزز ما يناقض ثقافة المجتمع وأعرافه، بموازاة إعلام يقدم ذات المواد بقوالب مختلفة؛ فنرى العنف اللفظي أو الانحطاط اللفظي، وسب الذات الإلهية؛ يروض النفوس على قبول هذه التشوه الذوقي، وعدم الأنفة من سماعها لو مرت عليه في شارع أو بيت؛ فلن ينكرها فقد تطبع معها، وبدلًا من أن تكون الرواية للترفيه والتغيير كحالة طارئة بين مجموعة قراءات منظمة؛ نراها باتت هدفًا ومنهجًا حياتيًا تُعزى إليه بعض السطحية والانصراف عن التعمق والبحث لدى شريحة واسعة.

ويأتي النوع السابق من القراءة متقدمًا على القراءة في الكتب المختلفة أيًا كان مجالها، والتي يمكن أن تكوِّن ثقافة متينة، وتزيد من المهارات البحثية، والقدرة على النقد والمقارنة، أو حتى الخروج منها بطريقة تحليل ممنهجة ومنظمة تسهم في ترتيب الأفكار، وبالتالي تعين على اتخاذ خطوات عملية تخدم المجتمع أو الفرد نفسه، من خلال إنتاج معرفي جديد، أو مشروع مجتمعي أيًا كان شكله.

أيًا كان نوع القراءة في زمن السباق على الكم علينا أن ننتبه أن التعامل معها على أساس النهم دون تنظيم سيؤدي إلى وقوعنا فريسة للتخمة الثقافية، نقرأ ولا نحلل أو نفكر أو نهضم، وقد لا نختزن شيئًا مما قرأنا ولكن الممارسة دون حرق لسعرات حرارية يعني أننا سنصل لحالة من القرف أو الاكتفاء والغرور وفي كلتا الحالتين بالون قارب على الانفجار!!

ما دمنا لا نأكل إلا عند الحاجة –في الوضع الطبيعي- فمن باب أوْلى أن تكون القراءة لإشباع حالة البحث؛ البحث عن الحقيقة؛ عن المعلومة، عن المعرفة، وكما أننا نمهل بطوننا بين الوجبة والأخرى فمن باب أوْلى أن نفسح لعقولنا المجال لتفكر بما قرأت، وما الذي انتفعته، أما القراءة المُشرعة الأبواب فإنها كالريح العابرة للأبواب لا يُعرف ما ينفع منها وما يبقى إن بقي!

التفكير المستمر كالرياضة، نمارسها لنحافظ على صحة الجسم، وعلى مستوى معقول من الرشاقة البدنية، والتناسب بين الوزن والطول، والتفكير بهذه الصورة يمنح عقولنا المرونة العالية للتنقل بين المعلومات والربط بينها، حتى في استرجاع القديم منها ومقارنته ببعضه، والخروج منه برؤية أوضح، كما يعين على غربلة الأفكار وتجديدها، وبث الروح فيها من جديد، دون اكتناز لها، يشعرنا بالعبء والضياع في الوقت ذاته.

نحن لسنا بحاجة للدهون المكتنزة، ولكننا بحاجة للجهد والنتيجة، للتفكير والعمل المبني عليه، لندفع بعجلات التغيير في واقعنا، في صناعة ثقافة أو تغيير قناعات أو دفع باتجاه أهداف أكبرى على قاعدة متينة من العلم والمعرفة والعمل المنتفع بالتجارب والخبرات.

وليكن شعاري وشعارك:

اقرأ أقل، فكر أكثر؛ واعمل بكفاءة أعلى.

 إسراء خضر لافي

05 جمادى الآخرة 1437هـ

14 آذار 2016مـ

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *