عام

من حكايات الموت والجَمال

Views: 3449

ثنائيةٌ غريبة، قد لا يكون بينهما رابط مباشر، ولكنهما يشتركان في الأثر العميق الذي يُترك في النفوس؛ فكيف إن اجتمعا معًا على صورة انبهار وفَقد في آن؟!

جَمالٌ جذاب، يدور في فلكه الأهل والأصحاب، ويشُد إليه أصدقاؤهم على منصات التواصل الاجتماعي، وحتى من ليس له صلة بهم، فتصبح قصة حياة صاحب الجمال محط إعجاب وتداول وانتشار، وإن رافقها جانب إنساني ومعاناة متفاقمة يظهر فيها الجَلد والاصطبار؛ كانت البطولة وربما الأسطورة، أما إن جمع الجمال معه صغر السن والحيوية والاهتمامات العظيمة؛ فإنه يلفت النظر إلى أن عظمة الفعل والحياة غير مرتبطة بتقدم العُمر، ولكن بعلو الهمة وسمو النفس.

ثم يأتي الموتُ قاطفًا خاطفًا؛ فيدلُ على جمال الميت، أو يضيف إلى آثاره أثرًا، وليست حادثة وفاة أسماء البلتاجي في مصر، وفادي طبخنا ومن قبله فادي علون في فلسطين وغيرهما كثير من الشهداء في كل زمان ومكان؛ إلا دليل على اتساع رد الفعل والتفاعل الآخذ في الاتساع؛ تعاطفًا، وتأثرًا، وحزنًا، ومحبة، وربما في مرحلة لاحقة اقتداء في الصبر أو فهم الحياة أو فقه العطاء.

الجمال هنا ليس ذا قيمة مجردة، وليس مختزلًا في صورة بهية، وتفاصيل خَلقية، ولكنه متكامل بين الصورة وجوهرها، مرآة تأخذ بيدك للغوص عميقًا حيث سر هذا الألق، فادي طبخنا لم يكن طالبًا عاديًا في جامعة بيرزيت ولكنه طالب رياضي صاحب إرادة انتصرت على مرض السرطان مرتين قبل أن يُتوفى بجلطة، فلم يكن سبب وفاته المرض الذي عمل طويلًا مجاهدًا آلامه ومواجهًا ثقافة المجتمع في التعامل معه، ولكنها إرادة الله التي قضت أن يكون فادي عبرة في فهم الحياة والانتصار على عقباتها، والجود بالابتسامة والعزيمة حتى في أصعب اللحظات.

وكذلك أسماء البلتاجي الصغيرة، التي لم تتجاوز السبعة عشر عامًا، التي قتلت على يد قناص بعد فض اعتصام رابعة، صغيرة في عمرها كبيرة بعقلها وفعلها، تنتمي للوطن الكبير، وتفقه معنى الكرامة والحرية، والعمل لأجل فكرة، تناصر الإنسانية إن كان في غزة وفلسطين أو ميادين مصر، تعلم من بمثل سنها كيف يكون العطاء ممتلئًا، ليس بسمة منثورة وحياة بغير وجهة، ولكنه عطاء مكتنز بالفهم والأدب والعلم والدين.

إلا أن الخطير في حكاياتهم أن نقف عند حدود التمتع بالجمال والإبحار فيه دون أن يأخذ منحى التأسي، والغوص فيما وراء الصورة، فيما وراء الذيوع والانتشار، فيما وراء هذا الأثر الذي لا حدود له، فليس ذاك للكيفية التي ماتوا فيها، ولكن لشيء أعمق فعلوه في حياتهم، وأغلب من يتلقون هذه الأخبار ويتفاعلون معها؛ ينفصلون عنها، فهم لا يُسقطونها على ذواتهم، ولا يضعون أنفسهم مكان هذا الإنسان أو تلك الإنسانة، مما يجعل الأحداث تضاف لبعضها في سلسلة من الأخبار المتغيرة بتسارع في كل يوم، لتصبح استدعاء من ماضٍ بعيد مهما كان الأثر قريبًا في النفس.

رسائل التنبيه لفهم الحياة كثيرة ولكن أكثرها احتشادًا ما جاء في صورة الموت، ولا أعلم هل نحن بحاجة لكل هذا الموت حتى نفهم دورنا الكبير في هذه الحياة غير المختزل في تسلية اجتماعية أو تمضية سنوات في شهادة أو بطالة؟ هل نحن بحاجة لأن يطرق الموت أذهاننا مرات ومرات حتى نعتبر وندرك أن هذا الانقطاع عن الحياة درب سيسلكه كل شخص في ساعته المحددة؟ وهل يبقى أثر التفاعل مع موت مَن لفتَنا جمالهم إليهم صورة رمزية على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض كلمات رثاء، وتكرار لعباراتهم ومقاطع الفيديو الخاصة بهم، دون أن يجبرنا ذلك على أن تكون لنا بصمة في كل زمان ومكان ومع كل إنسان، متجاوزين القشور؛ ليصبح لكل حركة وسكنة وقول ونشاط هدف ينسجم مع الأفكار الكبرى التي نتبناها؟

صور الموتى باتت مؤشرًا على حجم التفاعل معها والتأثر بها، ولكنها ليست بالضرورة انعكاسًا حقيقيًا لفهم رسائل الموت المستترة في طيات رحيلهم وحياتهم من قبل ذلك.

 

تاريخ الكتابة:

14 كانون أول 2016

15 ربيع أول 1438هـ

 

النشر على الجزيرة:

26 كانون أول 2016

الرابط:

من حكايات الموت والجمال

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *