عام

عمليات المقاومة إذ تعيد تشكيل الوعي المقاوِم

Views: 3520

عمليات المقاومة إذ تعيد تشكيل الوعي المقاوِم

منذ انتهاء انتفاضة الأقصى أواخر عام 2004، وبعد بناء الجدار الفاصل، وانتهاء اجتياح المدن الفلسطينية، والقضاء على عدد من المجاهدين والمقاوِمين في مختلف المحافظات ممن اعتبروا مسؤولين عن بعض العمليات، توقفت العمليات الاستشهادية، واختفت مظاهر المواجهات والاشتباك المسلح في الضفة الغربية والقدس المحتلة إلا نادرًا وذلك في الفترة بين 2005 إلى 2009.

وانشغل المجتمع الفلسطيني في الفترة ذاتها ببناء البيت الفلسطيني، وبالصراع الفلسطيني – الفلسطيني، انتخابات نقابية، وجامعات، وبلديات، وتشريعي، وما تبع ذلك ورافقه من سجالات وكيل للاتهامات بين الفصائل ومنتسبيهم وأنصارهم، وما تلاه من انقلاب على شرعية انتخابات 2006، وما نتج عنه من ملاحقات لكوادر حماس والجهاد، وكل مَن اتصل بالمقاومة بالضفة الغربية صار مطاردًا ومطلوبًا للأجهزة الأمنية وللاحتلال في آن.

هذه الظروف ساهمت في تراجع مفهوم المقاومة، وفي غيابها عن المشهد، مما جعلها بعيدة في الإدراك، يمكن أن تنتعش  بمحفز، كوقوع عملية مثلًا، ولكنها كحضور يومي لم تعد كالسابق، وبات يكتنفها كثير من السرية والهمس، لما ارتبط بها من ملاحقات وقمع.

وفي ظل القمع غير المسبوق الذي تعرضت له تحديدًا حركات المقاومة الإسلامية، وبعض نشطاء المقاومة من غيرهم، تراجعت إمكانية التحشيد والتعبئة والتنظيم والتوجيه لإنضاج عمل مقاوِم منظم كالفترة التي رافقت العمليات الاستشهادية، أو خلال اجتياح المدن.

حالة الفراغ الكبيرة الناتجة عن التغييب القسري لدور فصائل المقاومة كان لا بد أن تُملأ، أرادت السلطة الفلسطينية أن تملأ هذا الفراغ بأثقال من الديون والقروض بمسمى تسهيلات حياتية، وبإشغال الفلسطيني أكثر في نفسه ومصالحه، بل ولاحقته إذا احتفل بعملية، وإذا شارك في مسيرة تضامن، واستخدمت التهديد أيضًا، لينغمس أكثر في حياته، وكي لا يجد وقتًا ليفكر فيما حوله من قضايا، أو ليعطي أكثر، فهو مستنزف، وأيضًا مهدد.

ولأن هذه الأثقال كبيرة، وكادت أن تقضي على الروح المقاتِلة، بقي نتيجة التغييب لما يمكن أن يُحدث وعيًا؛ فراغ لم يُملأ، وعطش لم يُرو، وقصة لم تنتهي، وحالة فقد للمربي، والقائد الموجِه مع استنزاف الشخصيات الجامعة بالاعتقال المستمر والطويل.

ولا يوجد مَن يقوم بدور المفقود، فيملأ الفراغ، ويُحدث حالة من التوعية الجمعية، وحالة من التدافع الفكري والثقافي، وحالة من الفوضى، وحالة من الذهول؛ إلا عمليات المقاومة، التي شق منفذوها بها ظلام الليل البهيم، وادعاءات الاستحالة الواهية، فتداعت، وانتصروا مرارًا.

فما الذي فعلته عمليات المقاومة؟ وكيف ارتقى فعل المجاهدون في سلم التربية والتحشيد؟

أما عمليات المقاومة فإنها تبدأ بفعل الصدمة، صدمة إمكانية نجاح عمل جهادي في ظل ظروف عدمية، بدأت بعملية علاء أبو دهيم عام 2008، والتي تكررت مع عمليات نشأت الكرمي ومأمون النتشة عام 2010، فالأولى في القدس والثانية في الضفة، أما الصدمة الثالثة فكانت مع عملية تفجير حافلة في القدس عام 2011؛ وهي عملية أخذت منحى عدم التصديق والتشكيك بكونها عملية مقاومة، أولًا للفاصل الزمني البعيد مع آخر عمليات تفجير خلال انتفاضة الأقصى، وثانيًا لأن ممارسات الأجهزة الأمنية في الضفة والقدس شكلت تكلسًا كبيرًا على أذهان الناس يمنع تصديق إمكانية حصول الفعل، وثالثًا لانشغال الناس الكبير بهمومها الشخصية وإنهاء عصر البطولة وللخروج بحجم كبير من الآلام من التجارب السابقة، مما جعلهم في حالة ذهول مرة أخرى بين رغبة في تصديق الفعل، ورغبة في عدم تحمل تبعات الفعل، وهو ما تكرر أمام عملية خطف الجنود عام 2014.

ثم جاءت حرب غزة عام 2014 في فترة تدحرج خطيرة للأحداث؛ فأضافت للجهد المستفرغ في الضفة رغم الاستنزاف بُعدًا جديدًا، وتضامنًا واسعًا، دفع كثيرون ثمنه في الداخل المحتل وفي الضفة أيضًا، إلا أن أي مواجهة تالية بعد تلك الحرب، وأي بطولة ظهرت كانت قد تتلمذت على وقع تلك المشاهد التي لم ينسها الفلسطيني وهو يتفاعل معها بكاءً، وهتافًا، وتضامنًا اجتماعيًا.

جولات المقاومة بين القدس والضفة وغزة والداخل، في تكاملها، في ديمومتها سواء قلت أو كثرت، ورغم كثرة الاختلاف على كثير من التفاصيل حولها، إلا أنها تسهم بشكل أو بآخر في إزالة تكلسات الزمن التي رانت على عقول الناس، في مجتمع يعيش واقعين معًا؛ واقع شبه الدولة فاقدة السيادة، وواقع المواجهة في سياق حرب تحرير، إنها تعيد تنبيههم مرات كثيرة إلى ما يمارس بحقهم من إذلال، وباستحقاقهم لحياة كريمة، وبقدرتهم على انتزاع شيء اليوم.

ومع انطلاق انتفاضة القدس كثرت الجدالات حول الجدوى، وحول الأعمار، والانتماءات، ونوع السلاح، ولكن قلة الذين التفتوا إلى خصائصها الخاصة المستوحاة من طبيعة الظروف التي استولدتها، وإلى كثافة ما تصنعه في الإدراك، وفي الوعي، في كل بيت وحارة ومدرسة وجامعة، فالفعل المتكرر، والأداة المستلهمة من المتاح المتوفر، يلفتان انتباه أفراد المجتمع إلى أن هناك واجبًا يمكن القيام به لو لم يقم به المؤهلون له.

ثم نوع الراحلين الذي يحدث في كل مرة ارتجاجًا في محيط الشاب أو الفتاة فيكون دافعًا جديدًا، وفكرة جديدة يصعب حصر امتدادها وتأثيرها، ولكنه فعل يُخزن في جوف كل مَن تأثر به، ليصير يومًا فعلًا، إن لم يرقَ لفعل الشهيد فهو على الأقل لن يقف في وجه التيار، وربما سينافح عما عجز عن فعله، هذا الدور الذي يقوم به المجاهدون أو قل المقاوِمين إن شئت على اختلاف جنسهم، وأعمارهم؛ هو دور المربي المفقود، دور المجاهد القائد، لتكون دماءهم تربية وثورة.

وما لا يفعله الحوار، والمناكفات؛ تفعله عملية صغيرة أو كبيرة في فعل رجل أو فتى مقاوِم، في إقباله، وفي أثر الصدمة المتجدد الذي يصدع العقل الجمعي الرافض للمقاومة، ويسهل فيما بعد تفهم الدوافع، وما يتفق عليه المجموع ويرضاه سيصعب على الأصوات الشاذة أن تقف ضده، فتُرك السجال الكلامي لهم، فيما ميدان الفعل يتفرد فيه رجاله، لأنهم يدركون أن رسائل الفعل أقوى من ألف خطبة.

لتصبح المواجهة بين وعييْن؛ وعي الفلسطيني الجديد الذي أريد تدجينه منذ عام 2007، ووعي الفلسطيني الثائر الذي صنعه بعض شبابه المبادِر وما أحدثته غزة من صمود وبطولة.

وما تفعله انتفاضة القدس اليوم هو امتداد لهذه المواجهة غير المرئية بين الوعييْن، وبين الأجيال، ومع الموروثات، وضد كل المؤامرات، فهي انتفاضة لإعادة تشكيل الوعي، ولصناعة جيل جديد، قادر على فرض معادلات جديدة متجاوزًا عجز السياسي المفاوِض، وصافعًا كل الناطقين باسم السلام، والمستهزئين بفعلهم.

عامان على بدء عملية إعادة تشكيل الوعي المكثفة، الوعي بواقع الأرض المحتلة، الوعي بواجب المقاومة، الوعي بطبيعة الصراع، ولأن هذه العملية تأتي بعد سنوات طوال من الركون فستأخذ وقتًا إضافيًا لإزالة كل الرواسب، أو على الأقل حتى يتخفف المجتمع من بعض أعبائه ويحرر عقول الناس؛ فيصبح الفعل نفسه غير مدان، والمقاوِم غير مدان، وتحرير الأرض غاية، ولا يسلم الإنسان إن لم تسلم أعراضه ودياره.

إسراء لافي

23 شوال 1438هـ

18 تموز 2017مـ

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *