في شد الرحال إلى القدس
أقبل رمضان بنفحات الخير، تلهب أشواقنا، تعلن ساعة الصفر، بعد غياب أحد عشر شهرًا، نالنا فيها ما نالنا من النصب، والإرهاق، من الحزن، والقهر، من نفاد الذخيرة، والعتاد، فننطرح على عتبات الشهر راغبين، طامعين، وطامحين.
نضع أحمالنا، وتشرئب أعناقنا لقبول وفتوح وارتواء، لجبر كسر، وإجابة دعاء، وبلوغ معرفة، هكذا ندخل رمضان ونحن نرى فيه غار حراء، كهفنا ومعتكفنا، ملاذنا، قرآن يُتلى آناء الليل وأطراف النهار، تفكر، وتدبر، بحثًا عن ميلاد جديد، وبعث آخر.
وفي رمضان، هنا في فلسطين المحتلة، في ظل التضييق، ومصادرة الحق في زيارة المسجد الأقصى؛ يبدو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد) غاية وأول الواجبات التي يفرضها المقيم على نفسه، فهي فرصة تتعدد فيها النوايا والغايات، عبادة، وجهادًا.
ينفر الناس من بيوتهم، من كل بلدة ومدينة، من شمال وجنوب، إلى القلب؛ القدس والمسجد الأقصى، في مشهد يتكثف في رمضان وحده، يرجو الناس الوصول، والصلاة، والأجر، هكذا يبدأ إسراء كل واحد ليعرج في محراب القدس إلى السماء، بالصلاة، والدعاء، وليحلق مع الله في كل لحظة، فيخرج من ضنك الحياة إلى فردوس الوصال.
طريق طويلة يتخفف فيها المرء من أعلاقه، من شواغله، حتى يصفو، ويستعد للتلقي، وعلى قدر الاستعداد يكون الإمداد، هكذا هو رمضان مع القرآن معراجًا للروح والفكر، فكيف إن كان في أرض البركة؟ في القدس أرض البطولة، الأرض التي أراد الله عز وجل لها أن تكون قبلة العالم، ومركز قيادته، والمكان الذي يصنع العظماء.
وللعازمين والعازمات على شد الرحال إلى مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وغيره، أقدم هذه النصائح:
أولًا: جهز قلبك، احشد النوايا، تهيأ ليوم طويل، يحتاج منك همة عالية، وخفة في الحركة، فانوِ شد الرحال (السفر)، وانوِ الرباط، وانوِ الاعتكاف والحصول على أكبر قدر من الأجر بكثرة السجود وتلاوة القرآن، وانوِ فعل الخيرات من صدقة وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وانوِ الصبر، واستحضر ما تشاء.
ثانيًا: جهز حقيبتك بكل ما يلزمك من: طاقية وماء للتخفيف من حر الجو، كريم شمس –للفتيات-، بشكير صغير للوضوء، سجادة صلاة، مصحفك، شاحن للجوال، إسعافات أولية بسيطة، محارم، وأخرى مبللة، أقلام وأوراق لمن يكتب ملاحظات أو خواطر أو لما يحتاجه إليها، جوارب إضافية حرصًا على عدم إيذاء المصلين، مال إضافي للطواريء، كيس فارغ لاستخدامه للمهملات وغيرها، وتزود لفطورك ما يحتمل الفترة الطويلة، وبطبيعة الحال هويتك الشخصية.
ثالثًا: عند الخروج من الحواجز؛ لا تزاحم، ولا تدفع أحدًا، وإن لم يلتزم من حولك النظام فاصنع لنفسك نظامًا، الكل سيجد مركبة، والكل سيصل بإذن الله؛ المزاحِم والمتأني، ولن يفوت شيء.
رابعًا: احرص على تجنب الطرقات المزدحمة، فكل الناس تقصد باب العامود وتختار طريق باب الواد، يمكنك الوصول إلى المسجد الأقصى من طريق السوق “باب خان الزيت” –المحلات مغلقة صباحًا-، ثم تنزل من عدة حارات إلى يسارك أو يمكنك اختيار طريق باب الخليل أو باب الساهرة، وهي فرصة كبيرة للتعرف على معالم المكان، وأبواب سور المدينة والطرق المؤدية إلى المسجد، فلا تضيع هذه الفرصة، وإن صعب الأمر فرتب مع مجموعة أصدقاء من القدس ليقوموا بمهمة تعريفك بالمنطقة، وبهذا تفوز بالمعرفة فتصير مرشدًا لأهلك وزملائك فيما بعد، كما يمكنك أن تحمل كتاب أطلس معالم القدس والأقصى وما شابهه من كتب والاسترشاد بالوصف.
خامسًا: إن وضعت رحالك في المسجد –ساحاته أو مصلياته- فابدأ بركعتي تحية المسجد، وخذ قسطًا من الراحة، ثم صلِ ما شئت، واحرص على ترتيب برنامج خاص بك، يمكِّنك من الموازنة بين العبادة والتواصل مع الآخرين.
سادسًا: أبقِ في حقيبتك هدايا أو حلوى يمكنك أن تعطها لطفل صغير، وكذلك التمر إن أردت أجر تفطير صائم، وما أكثر أهل الخير الذين يأتون بما يكرمون به ضيوف الأقصى.
سابعًا: إن كان يوم جمعة فاحرص واحرصي على عدم الحديث أبدًا خلال خطبة الجمعة، حتى لا تبطل صلاتك.
ثامنًا: كثير من الناس بعد صلاة العصر يتوجهون للتزود بالفطور، ونظرًا للأزمة الخانقة على الأبواب وعلى المحلات المختلفة، أنصح بإحضار بعض المعجنات ويكفي المرء بضع لقيمات يقمن صلبه، هذا يريحك من الزحام وإضاعة الوقت بين الخروج والعودة.
ومن المعلوم أنه يتم توزيع وجبات إفطار في ساحات المسجد الأقصى، وفي هذه أيضًا لا تزاحم، وإن كنت لست في حاجة ومعك ما يكفيك فلا تُذهب أجرك في الدخول في عراك وتذلل.
تاسعًا: احرص على نظافة مكان جلوسك، ولا تنس أنه مكان صلاة، كما احرص على نظافة المرفقات التي تستخدمها كدورات المياه.
عاشرًا: تذكر/ي أن المسجد الأقصى ليس مكانًا لعرض الأزياء، وليس محل تصوير، فلا تبالغ، التقط من الصور ما تشاء ولكن لا تبالغ، فاللحظات الجميلة لا تحفظها صورة، البسي ما تشائين ولكن لا تبالغي فما يناسب المقام ما يعين على التحرك والتعبد، ويستر الجسد، ولا تنسى أنك أتيت إلى مولاك عـابدًا، متجردًا.
وأخيرًا .. رمضان مرآة العام، تكشف لك أيامك، وأعمالك مسبقًا، وما تقدمه لنفسك من خير تجده، استفرغ وسعك وابذل أقصى وأفضل ما تريد لعام مقبل عامر بالخير والعمل والأمل، قدم ما تنال أجره كاملًا حين تعبك أو مرضك أو وفاتك، جاهد نفسك مرارًا ليهديك الله إليه لقوله: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا“.
30 شعبان 1439هـ
16 أيار 2018مـ
نشر على مدونات الجزيرة