عام

الأسيرات والاعتصام

Views: 765

أن يسلبوا حريتك لا يعني أن تعجز عن المطالبة بما تراه حقًا لك، ولا يعني أن تلوذ بعجزك المؤقت دافعًا عن نفسك كل بارقة أمل لتجعل من حياتك بين قضبان السجن محتملة، فما قد تحصده بذراعك يمنحك أحيانًا أكثر مما تأمل، وأن تكون أسيرًا لا يعني أنك نزيل مجرد من الحق في الكلام والعمل.

الكثير من الأسيرات الفلسطينيات في هذه المرحلة لا يعرفن الكثير عن تاريخ النضال في السجون، ولا يعرفن كيف يدرن بعض المعارك مع السجان، وما الوسيلة الأنجع، وكل ما تُبرمج عقولهن عليه هو العقوبة المتوقعة والمعلنة إزاء أي فكرة احتجاج قد يُقدمن عليها، أسلوب التخويف الذي يغرس التردد والخذلان في بيئة يبحث كثير من أهلها عن السلامة وعن الحفاظ على بعض المكتسبات والتي هي حقوق لهن بالأصل كالزيارة والفورة وغير ذلك، ورغم ذلك يجربن ويقدرن حجم رد الفعل اللازم والمناسب، تجربة تكسبهن مع الوقت خبرة يتقن معها الاستفادة من الدروس ورفد الأسيرات الأخريات بها، وخاصة عند الحديث عن التجارب السابقة للأسيرات الجديدات.

اعتادت الأسيرات على وسائل مثل: إرجاع وجبة طعام، الإضراب، إضراب عن الفورة، إضراب عن العيادة أو المحامين أو المحاكم، أما في فترة اعتقالنا شهدنا أسلوب احتجاج آخر تمثل بالاعتصام في ساحة سجن الدامون، وقد وثقت أربع اعتصامات، اختلفت أسبابها ومطالبها، كان الاعتصام الأول خلال عملية دمج الأسيرات من سجنين معًا؛ الشارون والدامون في قسم 3 في الدامون وذلك في 28/10/2018 احتجاجًا على فرض إدارة السجن توزيع الأسيرات على الزنازين دون أن يُترك الأمر للأسيرات ينظمن شكل معيشتهن، ولم ينته الاعتصام حتى حصلت الأسيرات على مطلبهن في تحييد تدخل الإدارة في توزيع الأسيرات، بحيث تختار الأسيرة مَن ترغب بالعيش معهن.

فيما جاء الاعتصام الثاني في 19/03/2019 على إثر مشكلات كثيرة في كهرباء القسم، التي تسببت في تكرار إعطاب أجهزة كهربائية، وحالات إصابة بالكهرباء، إضافة لمشكلات تمثلت في الأمّان الكهربائي، انتهى الاعتصام بحصول الأسيرات على تعهد ببدء الإصلاحات وتعويض ما تلف، وتم البدء بتخصيص سجل لمتابعة أحداث الكهرباء ومشكلاتها الطارئة، وقد أمهلت الأسيرات إدارة السجن يومين لبدء الإصلاحات؛ إلا أن الإدارة بدأت في اليوم التالي فعلًا.

تسارعت الأحداث السياسية والأمنية في هذه الفترة وكان أبرزها فيما يتعلق بالأسرى طعن السجانين في سجن النقب من قِبل الأسيرين إسلام وشاحي وعدي سالم، ومن ثم قصف أم خالد “نتانيا” وقصف الاحتلال لغزة، وتبعات ذلك على الأسرى والأسيرات إثر حالة الطوارئ، حيث أُعلن عن منع أسرى حماس من الزيارة، ومعهم الأسيرات، وهذا ما عرفته الأسيرات عبر إذاعة الأسرى مساء 26/03/2019، وجاء قرار منع 10 أسيرات صباح يوم الزيارة 27/03/2019، وهن: لمى خاطر، بتول الرمحي، بيان فرعون، إسراء غنيمات، سوزان أبو غنام، سائدة بدر، صفاء أبو سنينة، سوزان عويوي، دينا السعيد، سونيا الحموري، وفي هذا اليوم نُفذ المنع على الأسيرتين بتول رمحي وسوزان أبو غنام، فاتفقت الممنوعات من الزيارة على اعتصام خاص بهن للمطالبة بإلغاء المنع، ولم يحملن بقية الأسيرات أي مسؤولية، وفي لحظة الاعتصام شاركت كل الأسيرات دون استثناء، كنا يدًا واحدة، روحًا واحدة، كيان واحد، احتجاج قوي في شكله ومضمونه فاجأ إدارة السجن، واستخدمت الأسيرات لهجة تصعيد عالية، كانت تنطوي على عدة خطوات أخرى أُمهلت الإدارة يومين فقط، وكان مطلب الأسيرات رفع المنع عن الجميع، وتعويض مَن فقدت الزيارة بزيارة أخرى في غير يوم زيارتها، وهذا ما تم الحصول عليه في 31/03/2019، حيث كانت تنوي الأسيرات عدم الخروج للزيارة الثانية تضامنًا مع الممنوعات، في لفتة مؤثرة وموقف لا يُنسى، وحين أقول “تم الحصول عليه” فهي عبارة في طياتها تفاصيل كثيرة من التفاوض والكتب المرفوعة لجهات عدة وتدخل للأسرى، تفاصيل تجعل يومي الانتظار ملأى بالإثارة والترقب والتأهب.

أما الاعتصام الرابع والأخير خلال اعتقالي فجاء بعد فترة شهر من التفاوض مع إدارة السجن على عدة مطالب خاصة بالأسيرات في رمضان، وعلى رأسها زيادة وقت الفورة خاصة في رمضان، حيث تخرج الأسيرات من الزنازين 4 ساعات متفرقة طوال اليوم وهي غير كافية، فكان الاعتصام قبل يوم واحد من رمضان في 05/05/2019، حيث شاركت كل الأسيرات، ولكن هذه المرة عمدت إدارة السجن إلى إغلاق الزنازين وأبواب الساحة أي حشر الأسيرات فيها، وحاول السجانون إخراج ممثلات الأسيرات من بينهن، ولكن الأسيرات عمدن إلى الحيلولة دون إغلاق الباب بعد إخراج الممثلات، أنهت الأسيرات الاعتصام بعد طلب الإدارة إمهالهم يومين للنظر في مشكلة الفورة، وفي نفس اليوم جاء رد بزيادة نصف ساعة فورة مبدئيًا، أي 4 ساعات ونصف، وحين أقول “شاركت كل الأسيرات” فهي عبارة للتأكيد إذ هناك مواقف لا تكون نسبة الانخراط بها 100%، وإذ تعمد السجانات على فحص كل الزنازين لتعرف هل الاعتصام بمشاركة الجميع أم هناك معارضون، وترفع ذلك في تقريرها اليومي.

بعد أول اعتصام باتت الأسيرات تخرج للاعتصام بعدة كاملة، تشمل الوضوء، وارتداء حذاء رياضي، وحمل قنينة ماء، وكرسي أيضًا، وتُحضَّر النفسية لعقوبة ما، وهن يقبلن على الاعتصام يفعلن ذلك وهن لا يرين إلا الهدف الذي يقفن لأجله والذي دفعهن لهذا الموقف.

لعل المواقف تبدو بسيطة في رقعة العالم الكبير الزاخر بالأحداث، ولكنها في ميزان السجن كبيرة، عظيمة، لها ما بعدها، وتؤسس لثقافة المواجهة وعدم الاستسلام لضعف الموقع الذي نحن فيه كأسيرات.

عاشت الأسيرات تفاصيل يومية كثيرة، ولعلي تحدثت عن الاعتصام فقط، لكن وسائل الاحتجاج والتعبير عن المطالب والمواقف كثيرة، منها ما نتج عنه عقوبة لكل القسم، لكن العقوبة تهون عندما تكون الجبهة موحدة، عندما نستمتع بالمواجهة لأننا على قلب رجل واحد، ليس لأن الموت مع الجماعة رحمة بل لأن الحياة حتى في السجن تظهر بعض خفاياها الجميلة عندما نتخلى عن الأنا لصالح الـ (نحن) مهما كان الثمن.

29 صفر 1431هـ

28 تشرين أول 2019مـ

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *