عام

الرسوم المتحركة للأطفال؛ ماض معلم وحاضر دون هدف

Views: 933
الحنين للماضي فيه الحنين لبرامج الطفولة التي رافقتنا، جمعتنا بالأشقاء والعائلة، فكنا مثلًا نشتري بالمصروف ما نتشاركه فقط عند بدء البرنامج المفضل، حتى أن برنامجنا اليومي ارتبط بموعد فترة الرسوم المتحركة أو المسلسل؛ فننهي الواجبات وأعمال البيت لنجد وقتًا نجمع فيه تركيزنا وترقبنا لبرامج الأطفال.
ضحكنا، وتألمنا مع القصص المختلفة، ترقبنا وفكرنا، وتفاعلنا مع أبطال البرامج وكأنهم جزء من حياتنا، ولعل منا مَن جسد الشخصية في حياته، فاكتسب صفات كالتحدي، وحب الخير، والجرأة، وتحمل الصعاب، وأن العاقبة دائمًا للخير والحب والجمال، وأن عاقبة الشر الخسران، والإنسان اللئيم المؤذي لا بد أن يأتي يوم فيعترف بأخطائه ويندم.
لمة العائلة، والوقت المنظم -نوعًا ما-، والقِيم، ثلاثية تمتعنا بها ونحن ندرك أن البرامج لم تكن حقيقية، ولكن لم يخطر ببالنا أن لمة العائلة لن تتكرر وأن الوقت سيكون عملة نادرة، الثابت الوحيد أننا تمتعنا بتلك اللحظات بكل عناصرها ونحن ندرك الكثير من التفاصيل التي اهتممنا بها في حينه.
أين هذه العناصر في إعلام الرسوم المتحركة اليوم؟ وأين يقف أطفالنا وكذلك نحن؟
في عصر الشاشات الصغيرة والكبيرة تمارس أغلب الأمهات سلوكًا متقاربًا؛ فإذا أرادت الارتياح من إلحاح أبنائها فتحت لهم التلفاز أو وضعت بين أيديهم جهازًا ذكيًا، دون رقابة غالبًا فهي تثق أنه على يوتيوب، وكلها برامج أطفال، ولا أتحدث عن استثناءات تمارس الفلترة لنوع القناة الفضائية، وبرامج اليوتيوب، أو تلك التي تناقش وتشارك أبناءها كافة نشاطاتهم.
يجلس الأطفال وقتًا طويلًا أمام إحدى القنوات الفضائية فإذا ما ترك التلفاز توجه للجهاز المحمول، لتتحول حياته إلى المشاهدة المستمرة، في المدرسة يشاهد المعلم، وفي البيت يشاهد عدة شاشات وقلما يشاهد أهله! وبالتالي نتحدث عن مركزية البصر في التقاط الإشارات والسلوك ومفردات اللغة، أي تغذية مستمرة للعقل الباطن، ومع افتقاد رفيق المشاهدة الناضج ينعدم لديه حس التفكير النقدي فهو مجرد متلقي.
ربما مع التلفاز يبقى الطفل أسير قناة أو أكثر تقدم برامجها الخاصة أو المدبلجة، ولكن مع الشاشة الصغيرة وموقع يوتيوب واستخدام خوارزميات تدرس سلوك المستخدم فإن الأمر يغدو أكثر خطورة، فمجرد دخول الطفل على برنامج ما أو القيام بعملية بحث واحدة فإنه يبدأ بفتح شهية المشاهد أكثر باقتراحات لبرامج للمشاهدة ضمن خياراته الخاصة وبالتالي يجد نفسه في ماراثون كبير من المشاهدة من مقطع لآخر، ومع إمكانية توقيف الفيديو والإعادة فإن الطفل يتمكن من الحفظ والإعادة سواء أدرك المسموع أو لم يدركه، وهذا السلوك يدفعه لحرق ساعات طويلة من وقته دون أن يتنبه الأهل إلى أبنائهم، ودون أن ينتبه الطفل إلى اللحظات المتسربة الحاجزة له عن أهله، ولن ينتبه للذكريات التي تُصنع في غيابه، سيتذكر الشاشة وبرامجها فقط.
ومع طول فترة المشاهدة يتحول هذا الكائن “الطفل” إلى كائن بطيء الحركة، يزعجه أن يُنادى عليه، أو أن يُطلب إليه القيام بأي فعل مما صغر، وربما يبكي وينفعل إذا سُحب منه الجهاز، فهو فعليًا لا يجد ما يملأ به وقته، وكل النشاطات الأخرى كالقراءة مثلًا أو التلوين لا تشبع ذاكرته البصرية والسمعية كتلك الشاشة التي تتحرك فيها الرسوم والممثلون، ولا تقدم له إشباعًا عاطفيًا أو إثارة كتلك المقدمة عبر الشاشات، ومع الوقت يميل للعزلة وعدم مشاركة العائلة في أي نشاطات أو جلسات.
وبنظرة على برامج الأطفال المقدمة اليوم عبر الشاشة الكبيرة، عبر القنوات الفضائية؛ فإن هناك جملة من الملاحظات عليها ، ومنها: المبالغة في الخيال سواء في أداء الشخصيات أو شكلها فالأمر لم يعد شخصية شقراء أو سمراء بل تعداه إلى تجسيد أجسام أطفال بمفاتن كبيرة وملابس لا تناسب براءة الأطفال، والمبالغة في القوة والعنف والجريمة وهي لا تختلف عن الأفلام التي في لحظة ما تدفع المشاهد للتعاطف مع المجرم أو اللص وتبرير فعله، بل مع اعتياد استخدام القوة لحل أي مشكلة تواجه الشخصية الكرتونية فإن هذا الطفل مع الوقت سيعتاد البطالة والبلادة وانتظار حدوث معجزة ليعالج بها أي مشكلة تواجهه، فإن لم يفعل ولم يحصل ذلك ولم يمتلك تلك القوة قد يتنمر أو ينطوي نحو الداخل مجسدًا حالة من الضعف لا يفرغها إلا المشاهدة والاندماج مع المشاهد!
ومن الملاحظات كذلك انعدام المنطق فأحد البرامج المقدمة عبر إحدى القنوات يقدم الحيوانات بطريقة تخالف الواقع فالفيل بألوان حمار وحشي، والقرد على شكل بومة، وهكذا، ولا يتوقف الأمر عند هذه الحدود ففي بعض البرامج هناك تعدٍ كلامي على الوالدين ولا يختلف هذا بطبيعة الحال عن الأغنية الشهيرة المسيئة للأب “بابا ما عاد يكذب”!
نعم هناك برامج تقدم باللغة العربية الفصحى تفيد في اكتساب الطفل لغة ومفردات جميلة ولكن العبرة بالشائع، فهناك برامج تلوث السمع بما فيها من أخطاء نحوية، وأخرى تقدم بلهجة محكية.
إضافة إلى ذلك فإن غزو البرامج المدبلجة دلالة على خلو الوفاض من صناعة المحتوى الهادف، المحتوى القيمي، وحتى على الشاشة الصغيرة ومن خلال اليوتيوب فهناك نوعين لافتين من البرامج: البرامج الغبية التي تكتفي بالتعبير بالأصوات فقط، أصوات وإيماءات غير مفهومة، ولم أجد تفسيرًا لتعلق الأطفال بها، والنوع الآخر من خلال التمثيل وهي تشبه مسلسلات الكبار من حيث النص، المختلف فقط أن الأداء من قبل شخصيات صغيرة!
فنحن لم ننجح في صناعة محتوى عربي مناسب للطفل من خلال تحريك الرسوم، ولما توجهنا للتمثيل لم نقدم شيئًا يصنع جيل المستقبل.
نعم لعل هناك من نظر بأثر رجعي إلى البرامج التي رافقتنا قبل أكثر من 25 ولكنها في زمانها ودون نظرية المؤامرة؛ أَمْتعت، وعلَّمت، وجمعت العائلة المتشتتة اليوم!
لنعيد هيكلة بيوتنا، لنعيد تنظيم أوقاتنا، أوقات الشاشات الكبيرة والصغيرة التي تأسر ملامحنا، وتحرمنا تذكر اللحظات الجميلة، تذكر وجوهنا، ومشاعرنا، وأن خلف الشاشات حياة، وأن الذين يقدمون لنا هذا المحتوى يسرقون بأموالهم أجمل سني أبنائنا!
ولنشارك في صناعة حياة ذات مغزى من خلال خلق نشاطات لأبنائنا تقلل تدريجيًا الارتباط بالشاشات لصالح أعمال تطوعية، وتجارب، وصلات أرحام، ونوادٍ، ومسارات، وتنمية هوايات، والأهم ترسيخ القيم بمرافقة والمشاركة ثم المشاركة ثم المشاركة … (نحو بعد غدٍ أفضل)
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *