ربيعُ الشُّهداء
ربيعُ الشُّهداء
شتاء العام كان مُبشِّرًا، وفي كل يوم ترسَّخ في يقيني جملة منعتُ نفسي مطوَّلًا من البوْح بها لأنّ الروح تعكس في محيطها واقعًا تَشكَّلَ في وجدانها شاءت أم أبت، ولعله الخوف من قافلة شهداء كان يمنعني من القول أن ربيع العام هو “ربيعُ الشُّهداء“، فقد تنسَّمت عبق الذكرى وملأ جوانحي مسكهم، زملاء دراستي، في السنة الأولى والثانية، والثالثة، وزملاء الطريق الأكبر والأصغر.
للشهداء سيماء لا تخطئهم؛ فهم يحيوْن بجنة أرواحهم، هم مسكٌ مقيم، وهمة عالية، وصمتٌ مخلص، وأدب راقٍ، وسمو نفس، وتحليق بآيات الكتاب، إنهم بوابة العبور إلى السماء، هم الوطن يصنعونه بتضحيتهم، يرسمون معالم الانتماء الصادق بدمائهم، هم الثورة لكرامة وحرية ينتزعونها بقوّة إراداتهم وإحالة المستحيل ممكنًا.
الشهداء يغربون عن حياتنا ليُشرقوا على نفوسنا؛ فأي إشراق خالد هذا الذي يمنح النفس السمو إن فترت وضعفت لتنشط شوقًا لتلحق بمن سبق، وأي غروب يصنعون فيأسرنا الدمع والدعاء، والعهد والوفاء.
هكذا يتفرَّد الصادقون وحدهم؛ فهم غرباء تنتهي غربتهم بالشهادة في سبيل الله.
في جامعتي
فحين كنتُ في السنة الأولى وفي الربيع انطلق في الجامعة معرِضًا ضخمًا تحت عنوان “الجرح النازف” لم يكتمل ولكنه كان جرحًا نزفه الشهداء والمطاردين والأسرى، فكان عنوانًا ألقى بظلاله على مرحلة كاملة، من هنا الدقة في اختيار وسم المراحل مهم.
استشهد رفعت الجعبة في 11/04/2002 معلنًا بدء قافلة من الراحلين إلى الخلود، ولحق به طارق دوفش في 27/04/2002م، لم أدرس معهما ولكن عرفتهما في ساحة الجامعة، في خدمة الطلبة، في المعرض، في التعامل المؤدب.
طارق دوفش
فلمّا استشهد طارق لم أكن أعرف اسم العائلة ورأيت اسمه في الجريدة في طريقي إلى القدس، وقع في نفسي أن هذا الاسم مرتبط بمن رأيت، فبكيت وعلمت كم كان البوْن شاسعًا، وكم وكم وكم لا يجب أن أنساها!!
ولاء سرور ومحمد شاهين
استشهد في عملية واد النصارى في 15/11/2002م، مع رفيقيه أكرم الهنيني وذياب المحتسب.أما محمد شاهين وأحمد الفقيه فكانا مرحين، مؤدبيْن، أذكر في محاضرة الثقافة الإسلامية آخر ما جمعنا قبل استشهاده رفع يده ووقف ليقول: إن شراءنا للبضائع الإسرائيلية كمن يدفع ثمن رصاصة تستقر في صدر إخواننا! وخرج من القاعة محدثًا بلبلة في القاعة بين الضحك والإعجاب والدهشة.
أيام قليلة حتى استشهد في 09/12/2003م، تأخرت عن الوصول للجامعة فسكني قريب، فلما وصلت استقبلتني الطالبتان السابقتان تعاتبني على قولي! وتعاتبني لتأخري، وكانت طالبات دفعته يبكين والتأثر سيد الموقف والجميع يستعد للتوجه لحضور جنازته والتوجه لمنزله.مع طارق وجهاد تعلمت أن عليّ أن لا أتكلم عن انطباعاتي، أن أنشغل بإصلاح نفسي وتقويتها، ولكن هذا الكامن بين ضلوعي يأبى إلا أن يخرج مرة ثالثة لكن هذه المرة حدثت به نفسي فقط، فهناك رجال حين يختارون البقاء على الإبعاد يعلنون بدء الصعود، ويفتتحون بإرادتهم طريق خلودهم.شهداء جامعتي جميعًا منائر عز وشمت أسماءها عميقًا بالدماء وما نُقِش بالدم لا تزيله الخيانات.
محمود القواسمي وباسل المبتسم ومجاهد وبلال، وطارق وجهاد ومحمد وأحمد وأكرم وذياب وولاء، رحمكم الله جميعًا وجعل الفردوس مستقركم وألحقنا بكم مقبلين غير مدبرين.
إسراء
02/جمادى الآخرة/1434هـ